قرأت ما كُتب عن توجهات الدولة الجديدة في حربها على الفساد، وخاصة قرار منع رمي الأوراق النقدية في الحفلات.
ورغم تعدد الآراء، فإن معظم ما نُشر لم يتناول الموضوع دراسة وبحثًا، حسب رأيي المتواضع، لأن هذا القرار يمثل خطوة جادة نحو إعادة الاعتبار للقيم والأخلاق العامة.
فقد أوضحت وزيرة التجارة والسياحة أن القرار إلزامي، وأن مخالفته ستُقابل بإجراءات تأديبية قد تصل إلى الإغلاق أو سحب الرخصة، وهو ما يعكس جدية الدولة في محاربة الممارسات التي تُهين الكرامة الإنسانية وتُكرّس مظاهر البذخ
والفساد..
هذه الجدية في التطبيق تعكس إرادة الدولة الحقيقية في محاربة مظاهر البذخ والفساد، وإعادة الاعتبار للقيم الاجتماعية.
سبق أن طرحتُ مبادرات مشابهة في مقالات سابقة، مثل:
«تداركوا المجتمع الموريتاني قبل فوات الأوان!»
«هل دفعت المرأة الموريتانية ثمن حريتها النسبي؟»
«عندما تتكلم المرأة الموريتانية في المحظور اجتماعيًا!»
لكن تلك المبادرات بقيت محدودة التأثير، إذ افتقرت إلى عنصر الإلزام القانوني. اليوم، يبدو أن الأمل في إصلاح حقيقي أصبح ممكنًا.
جذور الفساد المالي بين القديم والحديث
لفهم هذا التحول، يجب العودة إلى جذور البنية القانونية والاجتماعية في موريتانيا. ما تزال آثار النظام القبلي القديم وفقه البداوة حاضرة، إذ كان يُبرَّر لبعض الطبقات السيطرة على المال والنفوذ.
تعتمد الدولة اليوم على قوانين وضعية مستمدة من النظام الفرنسي، مع اجتهادات فقهية قديمة. هذه الاجتهادات كانت ترى أن أمراء بني حسان هم أصحاب السلطة الفعلية، وأن أموالهم حلال لهم بحكم السيطرة، وهو مفهوم ارتبط بعصر البداوة والسيبة، الذي يشرعن القوة والغلبة، لا بمفهوم الدولة الحديثة القائمة على العدل والمواطنة.
بعد الاستقلال، حاولت موريتانيا تكييف القوانين الوضعية مع الشريعة المالكية، لكن التداخل بين القديم والجديد ما يزال يُحدث خللاً في البنية القانونية والاجتماعية. كما عبّر الشيخ محمد المامي عن هذا الواقع بدقة، مشيرًا إلى غياب رموز السيادة والنظام، وهو ما يعكس فقه مجتمع بلا سلطة مركزية.
الإصلاح الفقهي والاجتماعي: ضرورة ملحة
المرحلة الراهنة تستدعي من رئيس الجمهورية إنشاء هيئة عليا لمراجعة الأحكام والاجتهادات القديمة، لتنسجم مع روح الشريعة ومقاصدها ومتطلبات الدولة الحديثة.
خطط الرئيس الغزواني الكبرى لمحاربة الفساد، مع زيارات ميدانية ومشاريع تنموية(البرنامج الاستعجالي لتعميم النفاذ للتنمية المحلية)، عززت ثقة المواطنين وأظهرت ديناميكية إصلاحية حقيقية. إلا أن التحضر لا يقاس بالمباني وحدها، بل بالتحول الفكري والأخلاقي والاجتماعي. ما زالت العصبية القبلية تسيطر على الهوية أكثر من الانتماء للدولة، ويزيدها الإعلام التجاري الذي يكرس الاستهلاك والانحلال، ضعف القيم الروحية والفساد الإداري.
الحل يكمن في بناء مشروع حضاري إسلامي عصري يوازن بين الأصالة والمعاصرة، ويستند إلى القيم الإسلامية ويستجيب لتحديات العصر.
القرار الحكومي الأخير قد يكون نقطة انطلاق نحو مراجعة عميقة لبنية المجتمع، بحيث لا يبقى مجرد إجراء إداري، بل يتحول إلى مشروع إصلاحي شامل يعيد لموريتانيا وجهها الأصيل في ثوب الدولة الحديثة.
إن نجاح هذه المبادرة يتطلب تكاملاً بين القانون، الفقه، والتربية على المواطنة، لتصبح الدولة والمجتمع وجهين لعملية إصلاح واحدة، يُحتذى بها في المنطقة.
آفاق فكرية بحث، معرفة، تبادل ثقافي