في تدوينة سابقة بعنوان “أقرب مشهد شاهدته بحياتي!” أو بعبارة أدق: “حين تُحجب مآذن المساجد خلف جدران الاستثمار!”، تحدثت عن مشهدٍ لم أكن أتصور رؤيته في نواكشوط.
مبنى شاهق يحجب مئذنة المسجد المقابل لمكتبي في تفرغ زينة، بالقرب من بيك ماركت.
كان هذا المسجد محط اهتمام جماعته الذين اجتهدوا في جمع المال لتوسعته وترميمه، وقد وعدهم قنصل الإمارات بتولي بناء المسجد والمحظرة التابعة له.
لكن المفاجأة أن القنصل لم يفِ بوعده! مما فتح الباب أمام أحد التجار لاستغلال الأرض وبناء مشروع استثماري عليها، متجاهلًا نية تخصيصها لتوسعة المسجد.
هذا المشهد لم يكن مجرد مبنى يعلو آخر، بل كان رمزًا لصراع القيم بين تعظيم بيوت الله والسعي وراء المصالح الدنيوية.
لم أشاهد هذا المشهد في أي من الدول التي زرتها، سواء في البلدان الإسلامية التي تُعظّم مساجدها وتمنحها مكانة خاصة، أو حتى في الدول غير الإسلامية التي تحترم دور العبادة وتراعي حرمتها.
لقد حث الله عز وجل عباده على إعمار المساجد ورفع شأنها، فجعلها منارات للعلم ومراكز للعبادة، كما قال تعالى:
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [النور: 36]،
وبيّن أن عمارة المساجد من علامات الإيمان:
(إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة: 18].
والغريب أنه أثناء كتابة التدوينة السابقة، كان البناء يحجب المئذنة فقط.
أما اليوم، الأحد الموافق 9 فبراير 2025، فقد تخطى البناء حدود المئذنة ليحجب المسجد بالكامل من جميع زواياه.
المشهد الآن أكثر إيلامًا، خصوصًا أنه مقابل طريق نواذيبو، بالقرب من البنك الشعبي الموريتاني ومطاعم (إسطنبول، وأم الدنيا).
بعد هذا المشهد، السؤال الذي يطرح نفسه:
أين وزارة الشؤون الإسلامية؟
أين رابطة العلماء؟
أين المسلم الغيور على دينه؟
اللهم إني قد بلّغت، اللهم فاشهد.
مفارقة محزنة!
والمضحك المبكي في آنٍ معًا، أن هذا الرجل الذي لم يُعظّم بيوت الله ولم يراعِ مكانة المسجد، تراه يصلي في المساجد ويرفع يديه إلى السماء طالبًا الرحمة! أليس هذا هو النفاق بعينه؟!
إن ما حدث ليس مجرد فقدان لبقعة أرض لبناء مسجد، بل هو انعكاس لتحولات أعمق في القيم والمبادئ.
فحين تُحجب المآذن خلف جدران الاستثمار، تكون الخسارة أكبر من مجرد مبنى… إنها خسارة لروح المجتمع وهويته.