بعض الناس يقضون أعمارهم في الكتابة والتأليف، يحملون القلم كأنما يحملون رسالة، ويسلكون الدرب الطويل بلا توقف.
وأنا أحد هؤلاء، حين بدأت الكتابة في مرحلة مبكرة من حياتي، وجدت نفسي أسيرًا لها، تأخذ مني الكثير من الوقت، وتفرض حضورها في كل ميدان: في العقيدة والفكر، في السياسة والمجتمع، في الدين والحياة.
كان أول أعمالي: “معرفة الله: دلائل الحقائق القرآنية والكونية” الناشر: دار الوثائق – دمشق (2001م)، الطبعة الثانية: دار وحي القلم (2002م).
حاولت فيه أن أقدم معالجة منهجية للعلاقة بين الدين والعلم من منظور قرآني، مستعرضًا الآيات الكونية بوصفها دلائل عقلية وروحية على وجود الله، معززًا ذلك بتحليل علمي حديث، ومستندًا إلى أكثر من 200 مرجع علمي وتفسيري.
ينتمي هذا العمل إلى أدبيات الإعجاز العلمي، وسعى إلى استعادة الوظيفة المعرفية والروحية للعلوم في خدمة الإيمان، مفندًا نظريات الإلحاد كالتطور وأزلية المادة.
وقد نال هذا الكتاب جائزة شنقيط للدراسات الإسلامية في نسختها الثانية عام 2003م.
ثم جاء كتابي الثاني:
“دين الفطرة: استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة إنسانية – رحلة العقل والقلب نحو اليقين”
الطبعة الأولى: مجمع الفقه الإسلامي – الهند (2010)
الطبعة الثانية: دار المعراج – دمشق (2014)
في عالم طغت فيه الماديات وارتبك العقل أمام تسارع الاكتشافات، حاول هذا الكتاب أن يجاوب عن الأسئلة الكبرى: من أين جئنا؟ لماذا نحن هنا؟ وإلى أين نمضي؟
إنه ليس مجرد بحث نظري، بل رحلة تمزج بين نور الإيمان وضوء العقل، بين تأملات الفلسفة وأدوات الفيزياء والرياضيات، في محاولة للتوفيق بين الوحي والعلم، بلغة إنسانية رصينة، وفكر معاصر.
كتبت بعدها أكثر من 500 مقال في الفكر والسياسة وعلم الاجتماع، نُشرت في مجلات ومواقع وطنية، وشاركت في نقاشات ومؤتمرات كثيرة.
لكن الذي شجعني اليوم على اتخاذ قرار التوقف عن الكتابة هو تجربتي الأخيرة في سلسلة “مع القرآن لفهم الحياة” التي نشرتها في شهر رمضان.
في كل رمضان نفتح المصاحف، ونكثر من التلاوة، ولكن هل نقرأ القرآن كما ينبغي؟ أم نعيد تكرار مشهد الشكوى النبوية: “وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا”؟
القرآن ليس كتاب بركة موسمية، بل منهج حياة يخاطب العقل والفطرة، ويجيب عن أسئلة الوجود الكبرى.
تلاوته دون فهم وتدبر لا تصنع نهضة، بل تحوّله إلى طقسٍ لا أثر له في الواقع.
في رحلتي مع القرآن، من المحظرة في “تندوجة” إلى أروقة البحث العلمي في “دين الفطرة” و”معرفة الله”، أدركت أن القرآن كتاب لكل الناس: للعالم والمفكر، كما للتلميذ والحافظ.
ومن هنا أطلقت سلسلة: “مع القرآن لفهم الحياة”، لنعود جميعًا إلى النبع، ونقرأ القرآن كأنه أُنزل علينا اليوم، لنفهم به الحياة، ونبني به مستقبلًا يليق بخلافة الإنسان في الأرض.
ولأن هذا العمل يحتاج إلى تفرغٍ كامل: لحفظ القرآن، وتدبره، والتوسع في علومه؛
فقد قررت التوقف عن الكتابة، إلى حين اكتمال هذه المهمة.نرجو الله أن يعيننا عليها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
حرر بتندوجه 19شوال 1446هجرية الموافق 17ابريل 2025م.