يُعد تاريخ الملاحة البحرية في مصر من أغنى فصول الحضارة الإنسانية، لا سيّما فيما يتعلق بالبحر الأحمر، ذلك الشريان الحيوي الذي ربط مصر بجنوب الجزيرة العربية، وشرق إفريقيا، وبلاد الهند منذ أقدم العصور. ومن بين المعالم البارزة في هذا السياق، تبرز مدينة القصير، الواقعة على الساحل الغربي للبحر الأحمر، كواحدة من أقدم وأهم الموانئ المصرية التي استخدمت في رحلات الاستكشاف والتجارة. وتتناول هذه الدراسة فرضية تاريخية تشير إلى أن أول رحلة بحرية دارت حول القارة الإفريقية، والتي نفذها الفينيقيون في عهد الفرعون نخاو الثاني، قد انطلقت من ميناء القصير، أو على الأقل من نطاقه الجغرافي، وذلك بناءً على المعطيات الجغرافية، والتحليل التاريخي، والمصادر القديمة.
أول رحلة بحرية حول إفريقيا: السياق التاريخي
تشير الروايات التاريخية، ولا سيما ما ورد في كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوت، إلى أن الفرعون نخاو الثاني (610–595 ق.م) أمر بتنفيذ بعثة بحرية عبر الفينيقيين تدور حول القارة الإفريقية. وقد انطلقت هذه الرحلة من البحر الأحمر جنوبًا، وعادت من مضيق جبل طارق إلى مصر بعد ثلاث سنوات، في واحدة من أعظم الرحلات البحرية في التاريخ القديم.
وقد أورد البحارة أثناء عودتهم ملاحظة لافتة: أن الشمس كانت تميل إلى جهة اليمين أثناء الإبحار في بعض مراحل الرحلة، وهي إشارة جغرافية دقيقة تدل على عبورهم خط الاستواء، ما يمنح مصداقية كبيرة لتلك الرحلة.
ميناء القصير: موقع استراتيجي وجسر نحو الجنوب
إن تحليل موقع ميناء القصير يؤكد مكانته كمركز بحري رئيس في العصور القديمة. فقد كان يتصل بطريق مباشر إلى وادي النيل عبر قنا، ويمثل نقطة انطلاق طبيعية للرحلات المتوجهة نحو الجنوب أو الشرق. وتاريخيًا، استخدمه المصريون في رحلاتهم إلى بلاد بونت، وكان مرفأً أساسيًا لتجارة البخور، والذهب، والعاج، والحيوانات النادرة، خاصة في العهد الفرعوني.
وبما أن الرحلة الفينيقية المشار إليها بدأت من البحر الأحمر، فمن المرجّح أن أحد موانئ مصر الشرقية كان نقطة انطلاقها. ورغم عدم وجود نصوص صريحة تربط القصير بهذه الرحلة تحديدًا، إلا أن قربه الجغرافي من طرق القوافل والمعابر التاريخية نحو الداخل، وتاريخه البحري الممتد منذ الدولة الوسطى، يجعلان من القصير مرشحًا قويًا ليكون ميناء الانطلاق.
القصير والفينيقيون: نقاط الالتقاء
الفينيقيون كانوا من أعظم البحارة في العالم القديم، وتمتعوا بعلاقات تجارية مع مصر منذ عصر الدولة الحديثة. وقد سمح لهم المصريون باستخدام موانئهم لخبرتهم البحرية الفريدة. لذا فإن التعاون بين الدولة المصرية والفينيقيين في تنفيذ هذه الرحلة أمر محتمل جدًا.
وبالاستناد إلى الأدلة الجغرافية، فإن ميناء القصير كان من بين النقاط المؤهلة لذلك التعاون، خصوصًا إذا اعتبرنا أن الموانئ الجنوبية مثل عيذاب كانت أقل أمنًا وأكثر بعدًا عن مراكز الحكم، في حين أن القصير كانت أقرب إلى الوادي وأيسر في الاتصال.
دلالات تاريخية ومعرفية
إن انطلاق أول رحلة بحرية حول إفريقيا من القصير يعزز من أهمية المدينة في سجل الاستكشافات الجغرافية العالمية، ويمنحها مكانة استثنائية في تاريخ الملاحة. كما يبرز هذا الحدث قدرة المصريين القدماء على تنظيم رحلات كبرى، واستغلالهم لموانئهم في توسعة آفاقهم السياسية والاقتصادية.
إن إدراج ميناء القصير في هذا السياق ليس مجرّد إضافة جغرافية، بل هو تصحيح معرفي لمسار التاريخ الملاحي في مصر، واعتراف بدور الموانئ “المنسية” التي ساهمت في صنع مجد البحر.
تشير القراءة التاريخية والتحليل الجغرافي إلى احتمالية قوية بأن القصير كان نقطة الانطلاق لأعظم رحلة بحرية في التاريخ القديم — الرحلة التي دارت حول إفريقيا. ورغم أن النصوص القديمة لم تذكر القصير بالاسم، فإن الأدلة المحيطة به، وموقعه الاستراتيجي، وتاريخه البحري، جميعها تؤهله لاحتلال هذه المكانة. إن إعادة النظر في تاريخ القصير وربطه بالرحلات الكبرى، كرحلة الفينيقيين، يُعد ضرورة لفهم الدور الحقيقي الذي لعبته هذه المدينة في حركة التاريخ الإنساني والملاحي.
________________________________________
المراجع:
• جادة، غازي. (1999). أول رحلة حول إفريقيا في التاريخ قام بها الفينيقيون. مجلة المعرفة، العدد 428، ص130–137.
• Herodotus. Histories, Book IV.
• عبد العزيز، حسن. (2001). الموانئ المصرية القديمة على البحر الأحمر. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للآثار.
• الطيب، جمال. (2015). القصير: تاريخ ميناء وتجليات موقع. مكتبة الإسكندرية.
