في زمن التيه والقلق، تظل الفطرة النقية والعقل الصادق، والقرآن الكريم، والصلاة… مفاتيح العودة إلى المعنى.
كلما تساءلت البشرية عن سرّ وجودها، وعن غايتها في هذه الحياة، كانت الإجابة تنبع من داخل الإنسان قبل أن يلتفت إلى الخارج؛ فالفطرة السليمة تهمس له بأن لهذا الكون خالقًا، وأن لحياته معنى، وأنه لم يُخلق عبثًا.
وحين يتحرر العقل من ضغط الشهوات وتضليل الأهواء، يدرك أن وجود المخلوق لا بد له من خالق، وأن هذا النَّظْم المعجز لا يصدر إلا عن حكيم عليم. وتبدو تجليات هذا الإدراك جليةً في مشاهد التأمل الكوني، الذي يقود إلى الإيمان: من المجرات التي تسير بنظام بالغ الدقة، إلى المواقيت الكونية، وسرعة الضوء، وعالم الذرة، والتوازن المحكم بين الإلكترونات والبروتونات… كل ذلك يشير إلى هندسة علوية، وضبط دقيق، وسنن لا يمكن أن تكون وليدة المصادفة.
لذا، كان الإنسان ولا يزال في تطلعه إلى خالقه، يتساءل أمام روعة الكون:
ما هذه السماء؟ وما تلك النجوم؟ ما أبعادها وأنساقها؟ كيف تشرق الشمس وتغيب؟ ولماذا لا تختل مواعيدها؟ وأيُّ قانونٍ يسير هذا النظام دون تفاوت أو خلل؟
يرفع بصره ويتأمل، فيمتلئ قلبه وعقله بنور مشترك، كأن الصور والمعاني تصبُّ في شعور واحد يقوده إلى أن وراء هذا النظام يدًا واحدة، وقدرة واحدة.
لقد كشف العلم الحديث عن عجيب صنع الخالق في النبات والحيوان والإنسان، وكلّها ـ على تنوعها ـ تخضع لسنن متناسقة، تدل على وحدة المصدر، ووحدة الهدف، ووحدة المدبر الحكيم.
واليوم، توصّل العلماء إلى توحيد المادة، وأثبتوا أن أصل المعادن واحد، وأن العلاقة بين الأرض والسماء محكومة بقوانين موحدة، وأن من صمّم عين الإنسان وعدستها هو نفسه من صمّم الشمس وأشعتها، وكأن البصر والشمس خُلقا في نسق واحد لحكمة واحدة.
ثم توسّعت الاكتشافات، فانتقل الإنسان بنظره من الذرة إلى المجرة، ومن جسيم لا يُرى، إلى نقطة تبعد أكثر من 9.46 تريليون كيلومتر (وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة واحدة)، مما زاد العقل دهشةً وخشوعًا أمام عظمة الخالق، وسعة قدرته، ودقة صنعه.
لكن العقل، مهما بلغ من الإدراك، يظل محدودًا، عاجزًا عن بلوغ كثير من الحقائق الكُبرى أو تفسير الغايات النهائية للوجود. وهنا تظهر الحاجة إلى الوحي: فكما أن المحدود لا يستطيع أن يصل إلى غير المحدود، شاء الله أن يتصل بنا هو، فأرسل الرسل، وأيّدهم بالآيات والمعجزات.
جاء موسى، ثم عيسى، ثم جاء محمد صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين، ومعه معجزة خالدة تتحدى الزمان والمكان والعقول: القرآن الكريم.
إعجاز القرآن بين التحدي الإلهي والعجز البشري
جاء القرآن معجزة متجددة، لا تتوقف، تعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاته، وبربه، وبالكون من حوله. لم يكن نصًا لغويًا فحسب، بل خطابًا إلهيًا يجمع بين البيان، والتشريع، والروح، ويخاطب الفطرة والعقل والضمير.
وليس من المنطقي أن يُنسب القرآن لأي مصدر بشري:
أما العرب، وهم أهل الفصاحة والبيان، فقد كانوا أوّل من تحدّاهم، فعجزوا عن معارضته رغم محاولات بعضهم كابن المقفع وأمية بن أبي الصلت.
وأما غير العرب، فأنّى لهم أن يأتوا بمثل بلاغته وهم لا يجارون العرب في لسانهم؟
وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فقد شهد له العدو والصديق أنه أُمِّيّ لا يقرأ ولا يكتب، نشأ في بيئة أمية، ثم جاء بهذا الكتاب المعجز الذي تجاوز عصره وتنبأ بمآلات لم تخطر على بال.
هذه الاستحالة الثلاثية تشكّل دليلاً عقليًا على المصدر الإلهي للقرآن الكريم.
ما هو القرآن؟
هو كلام الله، المنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، بوساطة جبريل عليه السلام، بلسان عربي مبين، المتعبد بتلاوته، المعجز بألفاظه، المنقول إلينا بالتواتر، الموجود بين دفّتي المصحف، المبدوء بالفاتحة، المختوم بسورة الناس.
خصائص القرآن الكريم:
1. إعجاز ذاتي: لا يحتاج إلى إثبات خارجي، بل هو معجزة في ذاته.
2. تنزيل إلهي: وحي من عند الله، وليس تأليفًا بشريًا.
3. التعبد بتلاوته: لا تصح الصلاة إلا به، وهو جزء من العبادة.
4. النقل بالتواتر: نقلته الأمة جيلًا بعد جيل، بما يستحيل معه التحريف.
أين يكمن الإعجاز؟
يرى جمهور العلماء أن الإعجاز يكمن في بلاغته وروحه وأسلوبه ومحتواه. لا يشبه أساليب البشر، ولا يرقى إليه أي نص بشري.
أما القول بالصرفة (أن الله صرف الناس عن معارضته)، فمردود؛ لأن الإعجاز هنا يكون في منع الخصم لا في قوة النص. بينما الواقع يثبت أن العرب حاولوا فعجزوا، فثبت أن التحدي حقيقي، والإعجاز أصيل.
التحدي مستمر
القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو هو، منذ أكثر من 1400 سنة. ومع تطور العلوم وتقدّم العقول، لم يفلح أحد في الإتيان بعشر سور، ولا حتى بسورة واحدة تماثله.
قال تعالى:
﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ… فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ [البقرة: 23-24].
ما بين “لم” النافية للماضي و”لن” النافية للمستقبل… تحدٍّ صريح للبشرية جمعاء.
القرآن… الرسالة التي انتظرها العقل، واستراح لها القلب، وسجد لها الوجدان
جاء القرآن مهيمنًا على العلم، لا يصادمه بل يسبقه، وجاء متوازنًا لا يشتط في العاطفة ولا يجف في العقل، وجاء بمنهج عملي يربط بين الإيمان والسلوك.
وإذا عرفت الله، فالصلاة أول الطريق. لذلك كانت الصلاة أول ما فُرض من العبادات، وأعظم ما يُسأل عنه العبد يوم القيامة.
قال العلامة البوطي رحمه الله:
“لقد فرضت الصلاة دون غيرها من العبادات في السماوات العلا، بينما سائر الأحكام نزل بها جبريل إلى الأرض… لأن الصلاة صلة خاصة بين العبد وربه، لا تحتاج إلى وسيط.”
الصلاة ليست مجرد طقس تعبدي، بل هي صلة بين المخلوق وخالقه، بين العابد والمعبود، بين الإنسان والكون. هي التجسيد العملي لمعرفة الله، والركوع أمام عظمته، والسجود بين يديه، وطلب الهدى منه وحده.
وحين نقرأ في القرآن:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ﴾ [طه: 14]
ندرك أن غاية الصلاة ليست الحركات، بل الذكر، واستحضار الحقيقة الكبرى: أن لنا ربًّا خلقنا، ويهدينا، ويرزقنا، ويُحب أن نناجيه.
لو علم الناس من هو الله، ومن هو محمد، وما هو القرآن، وما هي الصلاة، لما ضيّعوا ركعة، ولا أخروا سجدة، ولا قصروا في فرض.
لكن الغفلة كبيرة، والشهوات كثيرة، والتشويش عظيم.
ومع ذلك، يبقى نور الفطرة ساطعًا، والعقل الصادق دليلاً، والقرآن هاديًا، والصلاة مفتاح كل ذلك.
في زمن العجز البشري أمام تعقيد الوجود، تبقى الصلاة الملاذ الآمن، والدليل الحيّ على أن الإنسان لم يُخلق عبثًا.
فإذا عرف الإنسان ربه، فلا طريق أقرب إليه من سجدة
يعترف فيها بعجزه، ويطلب فيها هدايته، ويذكر فيها غايته.
هنا، يسجد القلب قبل الجسد، وتستكين الروح قبل الجوارح.