سألتني تلميذة، وفي سؤالها لهبٌ من الحيرة ودمعةٌ من الألم: يا أستاذ، لقد صدّعتنا بالتاريخ، وحفرت في ذاكرتنا أن فيه تشخيصَ العلّة ووصفَ الدواء، وكرّرت علينا مرارًا أن التاريخ مرآةُ الأمة، وسراجُ نهضتها، ومفتاح خلاصها… لكن، ما نراه اليوم من واقعٍ مذلّ، وأمةٍ مغلوبةٍ على أمرها، وأجيالٍ ضائعة بين الحيرة والخوف—يُشعرك بالعجز أمام هذا الجبروت الطاغي الذي لا يردّه أحد!
نعم… سؤالها أشدّ من السهام، وأصدق من المرآة، لكنه ليس بجديدٍ على أمة مرّت من قبل بعواصف أشدّ، وريحٍ أقوى، ورعبٍ أفدح. ذكّرتها بمحاضرة قديمة عن اجتياح المغول، يوم زلزلت سنابك خيلهم الأرض، ويوم ظنّ الناس أن الساعة قد قامت. يومها، بالغ بعض المسلمين في وصف قوة المغول حتى جعلوا منهم مخلوقاتٍ من كوابيس الليل، لا تعرف الرحمة، ولا تخضع لقانون. قالوا عنهم إنهم يأكلون الأطفال، ويشربون الدماء، ويذبحون الآباء في حضرة الأبناء. بالغوا حتى قالوا إن خيولهم لا تأكل، ونساؤهم أشدّ فتكًا من رجالهم، وإنهم قوم لا يُهزَمون، وأنهم يأجوج ومأجوج الذين أخبر عنهم النبي ﷺ.
لكن المصيبة لم تكن في المغول، بل في قلوب أُرعبت، وعقول أُطفئت، وألسنة نشرت الهلع، حتى ساد بين الناس شعورٌ بأن المقاومة عبث، وأن النجاة فردية، لا جماعية. استسلمت مدن بأكملها دون طلقة، وفتحت الأبواب دون حصار. وخطورة ذلك لا تكمن في القادة، بل في “المرجفين”، الذين ذكرهم القرآن في سورة الأحزاب، أولئك الذين يبثّون الوهن، وينفثون السمّ في جسد الأمة بكلماتهم القاتلة.
قال تعالى:﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الأحزاب: 60].
هؤلاء المرجفون هم بداية كل هزيمة، ونهاية كل أمل. هم سُعاة الإحباط، وصُنّاع الخوف، وخصوم الإيمان. ينفخون في نار الشك، ويصبّون الماء على جذوة الحماسة. هم العدوّ، لا يُؤتَمنون، ولا يُستهان بهم، فمعولهم يهدم الروح قبل أن تُرمى الحجارة.
لكن… كما في كل زمان، يسخّر الله لهذه الأمة من يبعث فيها النبض من تحت الرماد. جاء العزّ بن عبد السلام، بصوته الهادئ وبيانه الناري، يوقظ الغافلين، ويوقن الناس بأن المغول بشرٌ لا أكثر، يسري عليهم قانون الله في النصر والهزيمة، لا ميثولوجيا الخوف. وتقدّم تلميذه، سيف الدين قطز، فارسًا لا يهاب، فجمع القلوب بعد شتات، وأحيا روح الكفاح بعد أن خنقتها الوساوس.
عندما دخل الفرنسيون مصر، لم يأتوا فقط بالسلاح والمدافع، بل اصطحبوا معهم منابرَ جديدة، وأقلامًا مرتجفة، وعلماءَ ضلّت بوصلتهم فانحنوا، وبدل أن يواجهوا المحتل بالكلمة، بايعوه بالحيلة.
صعد بعض العلماء منابر المساجد، ليُلقوا خُطبًا يقطر منها الذلّ، ويُلبِسوا نابليون ثوبَ الولاية والصلاح، فقالوا إنه محبّ للإسلام، نصير للمسلمين، جاء ليحمي الضعفاء وينقذ الشعب من سطوة المماليك.
وسرعان ما انقلبت الرواية: المماليك أنفسهم الذين كانوا يُشتمون من على تلك المنابر، صاروا بعد عامين من الحملة حلفاء للفرنسيين، وسُلِّم لهم مراد بك، بعد أن باع لهم الدم مقابل سلطة، وأعادوا إليه ما سُلب منه، بشرط أن يكون حارسهم الأمين وجلّاد شعبه الأمين.
لكن… لم يكن الصعيد صامتًا، ولم تكن أرض الكنانة عقيمة. هناك، بعيدًا عن دهاليز القاهرة، وُلد صوت الحق من رحم الوجع. ظهر الشيخ الجيلاني في صعيد مصر، لا يطلب جاهًا ولا سلطانًا، بل يحمل في يده شعلة مقاومة، وفي قلبه نار غيرة، وفي صوته زمجرة لا تُهادن.
قاوم، وأوقد في النفوس جذوة ما خمدت. أيقظ الفرنسيين من نشوتهم، وأعاد إليهم طَعم الهزيمة التي حسبوا أنهم دفنوها في ساحات أوروبا.
إنه الصعيد… حيث لا يُشترى الرجال، ولا تُباع الكرامة، ولا تُحمد أقدام الغزاة.
فما الذي تغيّر؟ لا شيء سوى أن الأمة عرفت أن الهزيمة الحقيقية تبدأ حين تُستباح العقول بالخوف، وتُترك القلوب للمرجفين!
لا شيء سوى أن العدوّ عرف أن معركته الأولى ليست في ميادين الحرب، بل في دهاليز العقول.
فإذا سقط العقل بالخوف، سقط الجسد بالهزيمة.
وإذا ارتفع القلب بالإيمان، انهار الجبروت، ولو صرخ بألف مدفع.
فيا من تؤمن بالتاريخ، تذكّر أن المعركة الأولى ليست على الحدود، بل في النفوس. إن سقطتَ هناك، فالسقوط على الأرض مسألة وقت. وإن نهضتَ هناك، فأنت منتصرٌ وإن كنت وحيدًا، لأن الله وعدك بالنصر.
ويا من تؤمن أن التاريخ ضوءٌ لا يخفت، تذكّر:
أولى المعارك لا تُخاض بالسيوف، بل تُخاض في الضمائر.
فإن بقيت واقفًا في داخلك، لن يُسقطك الخارج.
وإن وقعت في قلبك، فكل سلاحٍ في يديك وهمٌ، وكل نصرك سراب.
نعم، إن الله وعدك بالنصر،
لا بكثرة العَدد،
ولا بقوة العتاد،
بل بثبات الروح،
وصدق العزيمة.
فانهض… فإن العدوّ الأول، لم يكن يومًا خارج الأسوار، بل بينك وبين نفسك.
وما النصرُ إلا من عند الله.
