هذا جبل شامخ، وقامة سامقة من الثقافة الشنقيطية، لا يمل الباحث في الحديث عنه، متتبعا خطوات حياته الثقافية الواسعة، فكلما طالع مخطوطة أو كتابا إلا ويجد ما يتحف به قراء العربية والمشتغلين بثقافة الشنقيطي، وقد وقفت له على بعض الجهود التي بذلها في قرض الشعر وكذا بعض الأخبار المأثورة عن إعجاب المصريين به، وكل هذا عثرت عليه وأنا أحاول أن أكتب بحثا عنه تحت عنوان: النسخة الشنقيطية وأثرها في نشر التراث، ولما تم لي ذلك، بادرت بنشره في مجلة معهد المخطوطات العربية، ثم تبين لي أن أكمل البحث بوضع يد الباحث على محتويات مكتبته، فوجهت البحث إلى فهارس مكتبة دار الكتب المصرية، فاستليت منها ما هو تحت إشارة(ش) التي ترمز إلي العلامة محمد محمود بن التلاميد التركزي، ثم أضفت فائت كتب الدار، وأنهيت العمل بنماذج من خطوط المؤلف، فهذا العمل جاهز للطبع، أرجو أن يجده القراء في أقرب وقت ممكن.
ومتابعة له وقفت على إعجاب المصريين، بهذا الطود الشامخ، حتى كتب الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار ما نصه: ذلك أن إمام اللغة والأدب ومفخر العجم والعرب. الأستاذ الشيخ محمد محمود الشنقيطي تفضل بزيارتي في 28 من شهر ربيع الثاني سنة 1317 ، وأنشدني البيتين الآتيين لأعرابية عشقت فتى في مكة،وحدثني أنه أنشدهما للشريف الأمير عبد الله باشا عون عندما عاتبه في مكة على عدم زيارته فقال له الأستاذ: بيتكم عندي هو البيت الثاني كما قالت الأعرابية:
للناس بيت يديمون الطواف به ولي بمكة لو يدرون بيتان
فواحد منهما لله أعظمــــــــــــــــــــــــــــــه وآخر لي به شغل بإنسان
وقال لي الأستاذ بعد ذلك: وبيتك عندي هو البيت الثاني في مصر والبيت الأول هو بيت الأستاذ الشيخ محمد عبده. فحسبي هذه الكلمة فخرًا أنها من رجل هو بقية السلف في الصدق والبعد عن التملق والنفاق. وأرجو أن يسمح لي القراء بهذين السطرين اللذين كتبتهما عن نفسي فلي سطران أو أسطر ولهم المجلة كلها، ولا غبن ولا تغرير إن شاء الله تعالى.
ويعترف له مرة أخرى بذلك الفضل، فيقول:” وُجد في مصر عالم من علماء اللغة يُعَدُّ في طبقة الأئمة الحفاظ الذين وضعوا لها المعاجم، ودوَّنوا الدواوين وهو الشيخ محمد محمود الشنقيطي، فلم يعرف له فضله أحد من علماء الأزهر ويرشد الناس إلى الانتفاع بعلمه إلا مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده وكان ينبغي لشيخ الأزهر أن يندبه لقراءة أشعار العرب وأراجيزهم في الأزهر، وقراءة بعض الكتب النافعة ككتاب سيبويه، وكتاب الكامل للمبرد، ويأمر العلماء ونجباء المجاورين بالتلقي عنه إذا كانوا يودون إحياء اللغة”.
وقال فيه أيضا: ” ساق الله إلى هذه البلاد رجلاً من الغرب، قد نبغ في علوم اللغة وآدابها روايةً ودرايةً؛ حتى صار إمامًا يُقتدَى به فيها، ألا وهو العلامة المُحَدِّث الشيخ محمد محمود الشنقيطي، واللغة – كما لا يَخفى على بصير – هي من سائر العلوم بمثابة الجسد من الروح، فمَن يذم المشتغل بدقائقها زاعمًا أن الأوْلى له الاشتغال بعلم الأخلاق الباحث عن صفات النفس مثلاً – هو كمَن يذم المشتغل بدقائق الطب، زاعمًا أن الفلسفة العقلية أفضل منه؛ لأن العقل والنفس أفضل من الجسد. لو كان المصريون على هدى في طلب العلم؛ لأحلّوا الأستاذ الشنقيطي أعلى مكانة في الأزهر، ولكان الطلاب في حلقته يعدون بالألوف، ولكنهم لم يرضوا بهضم حقه، وعدم إحلاله محلَّه؛ حتى وُجد فيهم مَن ينتقصه على إظهار دقائق لغة دينهم وكشف مخبّآتها!
أما إعجابه بالمفتي وهو الشيخ محمد عبده فقد ولد لديه مجموعة من الأشعار، دعا فيها إلى مدحه، والإشادة بشخصه وفكره وجاء ذلك ضمن قصيدة من تلك القصائد المختارة، حيث قال:
للجامع الأزهر المعمور عـــــــــاد على رغم الحسود فتى مصر ومـــــــــــــــفتيها
محمد الفحل عبده بدر هالتـــــــــــــــــــــــــــه خيراته ديمة هطــــــــــــــــــــــــــــــــــــلاء يؤتيها
ميسر لفعال الخير قاطبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة تأتيه طلابها تترى فيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــأتيها
سفائن العلم في ذا الشرق لآن غدت أعلامها بيديه وهو نـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوتيها
لم يَحسُدن على ما الله خــــــــــــــــــــــوَّلهم من فضله الناس من نعمى يؤتيها
لن ينكث العهد إن ينكثه ناكـــــــــــــــــثه بل عقدة العهد يُحـــــــــــــــــكيها ويُحتيها
وتعلمون جميعًا ما علـــــــــــــــــــــــــمت به من ذي المكارم مـــــــــــــاضيها وآتيها
هلا نظمتم لكم عقدًا مكـــــــــــــــــــــــارمه أم صرتم خرس فرس حول بختيها
وقد كانت علاقتهما قد توطدت بعد مشاركتهما في تصحيح وتحقيق وإخراج كتاب دلائل الإعجاز، مما حدا بالشيخ رشيد رضا أن يقول في ذلك: ” لما هاجرت إلى مصرَ لإنشاء مجلة ” المنار ” الِإسلامي في سنة 1315، وجدتُ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، رئيس جمعية إحياء العلوم العربية، ومفتى الديار المصرية، مُشتغِلاً بتصحيح كتاب ” دلائل الِإعجاز، وقد استحضر نسخةً من المدينة المنورة، ومن بغداد، ليقابلها على النسخة التي عنده. وأزيدُ الآن، أنه قد عُنى بتصحيحه أتم عناية، وأشركَ معه فيها إمامَ اللغة وآدابها في هذا العصر، الشيخ محمد محمود التركزىَّ الشِّنْقِيطى، ونَاهيك بكتابٍ اجتمعَ على تصحيح أصله علاّمتا المعقول والمنقول. فهذه شهادة لها قيمتها من متتبع لأعلام الثقافة، ومن معجب بالعلامتين المذكورين أعلاه. ونتابع في هذا المهيع من شعر الرجل وأخباره في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.