في زمنٍ اختلّت فيه الموازين، أصبح التافهون والمزيفون يتصدرون المشهد الاجتماعي والإعلامي، يجنون الأموال الطائلة من حضورهم في المناسبات ومنصات التواصل الاجتماعي، بينما يعيش المثقف والباحث والمؤلف في ظلال التهميش، بعيدًا عن أي تقدير مادي أو معنوي.
لقد شهدنا في الآونة الأخيرة تنامي ظاهرة “المخنثين”، الذين تجاوزوا حدود الخفاء إلى المجاهرة بالرذيلة في الفضاء العام وصفحات التواصل الاجتماعي. وربما لم تكن تلك الصور والمشاهد إلا اختبارًا لمدى تقبّل المجتمع، فإذا لم يُستنكر الأمر اليوم، فقد يتحول غدًا إلى واقع مألوف.
غير أن خطورة هذه الظاهرة لا تكمن فيها بذاتها فقط، بل فيما تكشف عنه من خلل أعمق: تغييب المثقف وإقصاء المعرفة لصالح اللهو والتفاهة.
موريتانيا، التي عُرفت على مدى قرون بأنها منارة علم وثقافة، حيث نشر علماؤها آلاف المخطوطات وأثروا الساحة الفكرية في العالمين العربي والإسلامي، تعيش اليوم مفارقة مؤلمة: الباحث الحقيقي لا يجد من ينشر له كتابًا محليًا، وغالبًا ما تُستثمر أبحاثه في الخارج بدلًا من أن توظَّف في خدمة وطنه. ولعل مثال أبحاث الراحل يحي ولد حامد في الرياضيات التي استثمرها مركز بحوث أجنبي خير دليل على ذلك. وعلى المستوى الشخصي، اضطررتُ في فترة من حياتي إلى بيع أحد كتبي لتغطية تكاليف الدراسة والمعيشة رغم قيمته العلمية عربيًا ودوليًا.
لقد نبهتُ إلى هذه المأساة في أكثر من مناسبة، من خلال مقالات مثل: ثقافة التحصيل بين الشناقطة الأوائل والجدد، ومأساة المؤلفين والمبدعين في موريتانيا، بل وصلتُ إلى إعلان شهادة وفاة المثقف الموريتاني. وهو وصف قد يبدو قاسيًا، لكنه يعكس واقعًا يعيشه كل صاحب فكر أو قلم جاد في هذا البلد.
إن غياب مؤسسة وطنية كبرى تُعنى بالبحث العلمي والنشر، وضعف الإرادة السياسية، وانشغال المجتمع بالقبيلة والسياسة والثراء السريع، كلها عوامل أهدرت فرصًا ثمينة لبناء نهضة اقتصادية ومعرفية. وحتى الجوائز الوطنية، مثل جائزة شنقيط، ورغم رمزيتها، لم تُستثمر بالقدر الكافي لتتحول إلى رافعة للعلم والثقافة أو منصة إشعاع عالمي.
ولذلك، فإن استعادة مكانة موريتانيا المعرفية والثقافية لن يتحقق إلا عبر رهان صريح على المعرفة، من خلال:
1. دعم صناعة الكتاب وتشجيع النشر المحلي وربطه بالمشروع الوطني.
2. إحياء ثقافة التحصيل العلمي التي صنعت عباقرة الأمس وإبرازها عالميًا.
3. استثمار المواهب الوطنية في البحث العلمي والأدب والفكر وربطها بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
4. إنشاء مؤسسة وطنية كبرى للبحث والنشر، تكون ذراعًا للدولة في دعم العلماء والمفكرين.
5. إعادة الاعتبار لدور الإعلام في إبراز الكفاءات الفكرية بدل تضخيم التافهين.
إن النهضة الحقيقية لا تقوم على المظاهر ولا على مكاسب عابرة، بل على استثمار الثروة البشرية وربط العلم والثقافة بمشروع وطني متكامل. أما ترك الساحة فارغة للمزيفين والمخنثين، فهو تهديد مباشر لهوية الوطن وقيمه، ووأدٌ لفرص التنمية الحقيقية.
(*)حاصل على جائزة شنقبط نائب الرئيس الأول لمنتدى الفائزين بجائزة شنقيط
