توطئة:
يتناول الدكتور محمد الحاج محمود طالب في مقاله “الفساد بين كشف التجاوزات وبداية الإصلاح” واقع الفساد في موريتانيا في ضوء تقرير محكمة الحسابات الذي كشف عن تجاوزات مالية ضخمة تجاوزت أربعمائة مليار أوقية قديمة، وهو ما أثار جدلًا واسعًا في الشارع الموريتاني بين من اعتبر قرارات الدولة خطوة إصلاحية جريئة، ومن رأى فيها تحركًا انتقائيًا لا يمسّ كبار المسؤولين.
يرى الكاتب أن الفساد في موريتانيا ظاهرة بنيوية متجذّرة في الإدارات والمصالح، يصعب اقتلاعها بقرارات ظرفية أو آنية، لأنها متشابكة مع مصالح سياسية واقتصادية متغلغلة في بنية الدولة.
كما يشير إلى وجود ثغرات قانونية وإدارية تُستخدم لتخفيف توصيف الجرائم المالية، فبدل أن تُصنّف أفعال معينة ضمن “الاختلاس” تُدرج في خانة “سوء التسيير”، مما يفتح الباب أمام الإفلات من العقاب، ويكشف ضعف المنظومة الرقابية التي تضم أحيانًا عناصر كانت جزءًا من منظومة الفساد نفسها.
ويخلص الكاتب إلى أن الإصلاح الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا عبر مقاربة مؤسسية تراكمية تقوم على ثلاثة ركائز أساسية:
1. إرادة سياسية جادة في محاربة الفساد دون استثناءات.
2. إصلاح تشريعي وإداري شامل يغلق منافذ التلاعب المالي والقانوني.
3. ترسيخ ثقافة النزاهة والشفافية في المجتمع والإدارة.
ويؤكد في الختام أن نشر تقرير محكمة الحسابات يمثل خطوة أولى في الاتجاه الصحيح، لكنه لا يكفي وحده ما لم يُتبع بإجراءات عملية تُعيد الثقة بين المواطن والدولة وتحوّل الرقابة إلى أداة للإصلاح المستدام.
المرابط لخديم
المدير الناشر لآفاق فكرية.
نص المقال:
الفساد بين كشف التجاوزات وبداية الإصلاح
بقلم: الدكتور:محمد الحاج محمود طالب،
خبير في الدراسات الدبلوماسية والاستراتيجية.
لا صوت يعلو هذه الأيام فوق صوت الحديث عن الاختلاس والفساد والمفسدين، خاصة بعد صدور تقرير محكمة الحسابات الذي أثبت حدوث تجاوزات و اختلالات في التسيير تجاوزت أربعمائة مليار أوقية قديمة. وقد انقسم الشعب الموريتاني حول قرارت الدولة إعفاء وإحالة المتورطين في الفساد إلى القضاء بين مثمن للقرار واعتباره إنجازا كبيراً يحسب لرئيس الدولة ، و بين من يرى أنه مجرد ذر للرماد في العيون ، حيث إن المفسدين الحقيقيين حسب رأيهم لم يتم التعرض لهم و لم يشملهم التفتيش كما لم يشمل التفتيش كذلك بعض الوزارات الأساسية في الدولة.
لا شك أن الفساد هو الخطر الحقيقي الذي ينخر جسد الدولة ويتسبب في تعطيل عجلة النمو الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وبالتالي فإن محاربته يجب أن تكون هي أولى الأولويات لكل دولة تسعى إلى تحقيق النمو الاقتصادي والتقدم والازدهار في كافة المجالات. لكن محاربة الفساد ليست عملية سهلة كما يظن البعض، فهي عملية معقدة وتتطلب وضع استراتيجية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار كافة أنواع الفساد ومظاهره المختلفة: الاختلاس، الرشوة، المحسوبية، والواسطة…إلخ. قد يبدو للبعض أن مكافحة الفساد والكشف عن التجاوزات أمرًا بسيطًا وعملية سهلة، لا تتطلب أكثر من إصدار قرار من الجهات العليا باعتقال المفسدين والزج بهم في السجن، لكن الأمر أعقد من ذلك، فكثيرًا ما تكون التجاوزات قد جرت بتوجيهات أو بإيعاز من جهات عليا، مما يجعل أيّ إجراء لاحق ضد المتورطين محدودًا ، نظرا إلى أنه يمسّ بنية معقدة من المصالح المتشابكة داخل المنظومة الإدارية والسياسية.
ومن العوامل التي تشكل عائقا أمام محاربة الفساد والمفسدين هو تحويل القوانين التي وُجدت لحماية المال العام إلى أدواتٍ للتأويل والتلاعب، كما أن عدم الالتزام بالصلاحيات والتداخل في السلطات والاختصاصات أحيانا يعقد من مهمة المراقبين ، فمثلا الوزراء بحسب القانون ليس من صلاحياتهم الأمور المالية، لكن للأسف في الغالب لا يتم الالتزام بذلك ، الأمر الذي يربك المسؤولين عن التقارير الرقابية حيث إن اللوائح والنظم المعتمدة قانونا تجعل من الوزير غير مسؤول عن الاختلالات والاختلاس المالية لأنها من صلاحيات الأمين العام والمديرين، فيتم إعفاؤهم بينما تبقى منظومة الفساد الحقيقية وأعضاؤها من المفسدين خارج المساءلة، وهكذا يترسخ الفساد كواقعٍ إداري واجتماعي ويستمر في الانتشار كالنار في الهشيم.
ومن العوامل كذلك التي تشكل عائقا أمام محاربة الفساد والمفسدين هو القراءة الحرفية للقانون وإخضاعه لقراءات خاطئة أو البحث عن ثغرات أو تفسيرات تساعد على الالتفاف على روح القانون، ولا أدل على ذلك من اعتبار محكمة الحسابات في تقريرها أن ماتضمنه التقريرلا يصنف على أنه اختلاس وإنما يمكن يمكن تصنيفه على أنه سوء تسيير فقط .
لا شك أن القانون، يفرّق بين الاختلاس وسوء التسيير بالنية؛ لكن في الحقيقة والواقع، فالنتيجة واحدة: تضييع الأمانة ومايترتب على ذلك من هدر للمال العام دون وجه حق.
وعليه فإن سوء التسيير ليس مجرد خطأ إداري فحسب، بل اختلال في ميزان المسؤولية، نتيجة لاتخاذ قرارات مرتجلة أو مجاملة في التعيين أو إهمال في الرقابة إلى غير ذلك من التصرفات اللامسؤولة التي تؤدي إلى الخلل في عمل المنظومة الإدارية وما يترتب على ذلك تعطّل في المرافق الحيوية للدولة، وعجزها عن القيام بالمسؤوليات والمهام التي أنشئت من أجلها على أكمل وجه.
إن المفارقة المحزنة هي أن المؤسسة المكلفة بالمحاسبة ، هي نفسها، قد تضم من كانوا شركاء الأمس في الفساد أو متواطئين بالصمت ، ربما لأنهم يدركون أن المساس بحلقةٍ واحدة من حلقات الفساد قد يُسقط السلسلة بأكملها، وبالتالي يصبحون في مواجهة غير متكافئة مع منظومة فساد متكاملة ومتشعبة ومتغلغلة في مفاصل الدولة. الأمر الذي يتطلب أن تكون محاربة الفساد ذات طابع مؤسسي مبني علي مقاربة حكيمة ومدروسة لكي تؤتي أكلها، وليس بناء على ردود أفعال حماسية أو قرارات ارتجالية.
يروى أن أحد أبناء عمر بن عبد العزيز دخل عليه يوما وقال:(يا أبت ما لك لا تنفذ الأمور؟!, فوالله ما أُبالي لو أن القدور قد غَلَتْ بي وبك في الحق) فأجابه:( لا تعجل يا بني؛ فإن الله قد ذمَّ الخمر في القرآن مرتين, وحَرَّمها في الثالثة, وإني أخاف أن أحمل الحقَّ على الناس جملةً, فيدفعوه جملةً, ويكون من هذا فتنة).
نستنتج من قراءتنا للتاريخ أن محاربة الفساد وتحقيق الإصلاح، يتطلبان مزيجًا من الحكمة والإرادة السياسية القوية ،وكذلك تفعيل الإجراءات القانونية والرقابية، إلى جانب تعزيز النزاهة والشفافية من خلال التوعية المجتمعية ( تنمية ثقافة المساءلة ومحاربة الرشوة والمحسوبية ). يجب كذلك أن تشمل الخطوات سن قوانين رادعة، وتطبيق العقوبات على المفسدين، وتعزيز الرقابة الداخلية والخارجية.
هناك مؤشرات إيجابية توحي بأن النهج الإصلاحي في البلاد بدأ يستوعب شيئًا من هذه المعادلة، وذلك عبر تعزيز آليات الرقابة وتكريس الشفافية ، ويُعدّ تقرير محكمة الحسابات لسنتي 2022–2023م. أنموذجًا في هذا الاتجاه، إذ حمل إشاراتٍ واضحة على الجدية في تتبع أوجه القصور وتصحيحها. كما أن إتاحته للرأي العام خطوة جريئة نحو شفافية مؤسسية حقيقية.
وفي هذا الإطار فإن الحكم على قرار الحكومة يجب أن يؤسس على النتائج والمخرجات وليس على الدعاية والشعارات حيث إن الإصلاح لا يُقاس بما يُقال، بل بما يُنجز في صمتٍ واتساقٍ مع القانون، فالتاريخ لا يذكر لنا من تحدث كثيرًا عن الفساد، بل من بنى مؤسساتٍ تقاومه وتمنعه من العودة.
غير أن الإشادة بتقرير المحكمة وبخطوات الحكومة لا يعني أن الانتقادات أو التساؤلات التي أثارها البعض في غير محلها فهي تساؤلات وجيهة ومشروعة، ومن الخطأ الاعتقاد أننا قد قضينا على الفساد لمجرد صدور هذا التقرير وإعفاء من شملهم من مناصبهم وإحالتهم على القضاء.
فمازال أمامنا طريق طويل ومازالت هناك أسئلة جوهرية كثيرة لم يجيب عنها تقرير المحكمة، منها على سبيل المثال الفساد خلال الفترات السابقة للتقرير و الفترة التي بعده، ما موقف الحكومة من ذلك ، هل اتعتبره من باب عفى الله عما سلف أم أنه ستضع آليات لمتابعة ومحاسبة من يثبت تورطهم في تلك الفترات وتقديمهم للعدالة. رغم هذه الملاحظات إلا أننا في الوقت نفسه يجب أن لا نقلل من أهمية هذه الخطوة بل يجب تثمينها واعتبارها خطوة في الاتجاه الصحيح ، وكما يقول المثل الصيني فإن خطوة الألف ميل تبدأ بخطوة.
آفاق فكرية بحث، معرفة، تبادل ثقافي