المختار ولد داداه… مواقف خالدة لرجل من طينة العظماء!/المرابط ولد محمد لخديم

بعد نيل موريتانيا استقلالها سنة 1960م، وجد الرئيس المؤسس المختار ولد داداه نفسه أمام تحدٍّ جسيم: تأسيس دولة من لا شيء!! فلا عاصمة مشيّدة، ولا بنية تحتية، ولا مؤسسات قائمة، ولا حتى ميزانية تسدُّ رمق الاحتياجات الضرورية.
      ورغم صعوبة اللحظة، استطاع هذا الرجل بحكمته ودبلوماسيته الرفيعة أن يؤسس الجمهورية الإسلامية الموريتانية من العدم، ويدخِلها برأس مرفوع في محافل القارة والعالم. فكان بذلك رجل دولة حقيقيًا في زمن ندر فيه الرجال.

شهادة من ذهب
      ومن الشهادات الخالدة التي قيلت في حقه ما ورد عن الجنرال موبوتو سي سي سيكو، رئيس زائير (الكونغو الديمقراطية حاليًا) سابقًا، حين قال:
    “لو قدّر لنا أن نجد عشرة زعماء أفارقة مثلك، لما عانت قارتنا من الجهل والتخلف!”
     ويستشهد بهذه المقولة الفريدة دعاة وعلماء كبار، منهم الدكتور عمر عبد الكافي الذي سرد القصة كاملة في أحد برامجه، ويمكن مشاهدتها عبر هذا الرابط.

بدلة واحدة… ومدرسة خالدة!
      في زيارة رسمية سنة 1973، حط الرئيس الزائيري رحاله في نواكشوط، ولم يفت عليه أن يلاحظ أن مضيفه، الرئيس المختار ولد داداه، لم يغيّر بدلته طيلة ثلاثة أيام. فأدرك أن الرجل لا يملك ترف الملابس الفاخرة، وأنه يعيش زهدًا حقيقيًا رغم منصبه.
     وفي ختام الزيارة، سلّم موبوتو سكرتير الرئيس شيكًا بقيمة خمسة ملايين دولار، على أن تُصرف في شراء بدلات راقية من باريس، تجنبًا لإحراج مضيفه الكريم.
لكن المفاجأة كانت في تصرف الرئيس ولد داداه، الذي أخذ الشيك وسلّمه لوزير المالية قائلاً:
“هذه هدية لشعب موريتانيا… ولا يجوز أن أنفق على مظهري ما يمكن أن نُقيم به صرحًا للعلم!”
      وبالفعل، تم تخصيص المبلغ لبناء وتجهيز المدرسة العليا للتعليم ENS، التي كانت موريتانيا حينها في أمسّ الحاجة إليها لمحاربة الأمية، وتكوين الكوادر التعليمية المؤهلة.
بعد خمس سنوات، زار الرئيس موبوتو المغرب، وبينما هو في الرباط تلقى اتصالًا من الرئيس ولد داداه يدعوه لزيارة قصيرة إلى موريتانيا. لبّى الدعوة، وما إن خرج من المطار حتى لاحظ لافتات في الشوارع تقول:
“شكرًا زائير، شكرًا موبوتو، شكرًا على الهدية القيمة!”
تعجب الرئيس الزائيري وسأل مستضيفه:
“أي هدية؟ أنا وصلت لتوي!”

     فأجابه المختار ولد داداه بابتسامته المعهودة:
“هذه هي هديتك… مدرسة لتكوين الأساتذة، أنقذت أجيالًا من الجهل!”

    فذرف موبوتو دموع التأثر وقال كلمته الشهيرة:
“لو وجدنا عشرة مثلك، لما عانت إفريقيا!”

رجال لا يموتون
    ويروي الأستاذ الدكتور محمد سيديا ولد خباز، رئيس جامعة نواكشوط سابقًا، أن الأمانة كانت سمة ذلك الجيل الذهبي؛ إذ كان حتى تعويض السفر “frais de mission” يُعاد إلى الخزينة العامة للدولة إن لم يُصرف في مهمته الفعلية.

    أما اليوم، فإن هذه التعويضات تُصرف بالكامل، بل يُتحايل عليها في بعض الأحيان، رغم أن موارد الدولة محدودة والاحتياجات كثيرة!
رحل الرئيس المؤسس، لكن سيرته باقية، وأفعاله تتحدث عنه، وشهادات العظماء تصدح بإسمه.
لقد كان زاهدًا في المظهر، عظيمًا في الجوهر، وكان يعرف أن بناء الإنسان أولى من بناء القصور.

“قد مات قوم وما ماتت فضائلهم
                      وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ

هامش:

(*) المدرسة العليا للتعليم ENS تضم خمسة أقسام، وتخرّج سنويًا حوالي 300 أستاذ وأستاذة، كما تدرّب حاليًا أكثر من 600 طالب وطالبة، بالإضافة إلى كونها مركزًا لتكوين موظفي الدولة من مختلف الوزارات.

شاهد أيضاً

تأملات في رحاب “دين الفطرة”: رحلةٌ بين الفكر والوجدان/بقلم الدكتور طه حسين الجوهري؛

منذ أن وقع بين يديَّ ذلك الكنزُ الفكريُّ — كتاب “دين الفطرة” للعالم الجليل الأستاذ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *