تأملات في رحاب “دين الفطرة”: رحلةٌ بين الفكر والوجدان/بقلم الدكتور طه حسين الجوهري؛

منذ أن وقع بين يديَّ ذلك الكنزُ الفكريُّ — كتاب “دين الفطرة” للعالم الجليل الأستاذ المرابط ولد محمد لخديم والذي اهداني اياه منذ فترة — وأنا أعيشُ في حالةٍ من الحوار الروحيِّ والعقليِّ مع سطوره، كأنها خريطةٌ تُرشدُ التائه في صحراء الشكوك إلى واحة اليقين. لقد قرأتُه بتأنٍّ كمن يرشفُ رحيقَ المعرفة قطرةً قطرة، فوجدتُ فيه ما يجمع بين صرامة العلم وشفافية الإيمان، بين منطق الفلاسفة وقلوب العارفين.
    في رحاب الفكر الإسلامي الموريتاني الأصيل، حيث تُنسج أفكارٌ كاللآلئ في عقدٍ من نور، يطلُّ علينا كتاب “دين الفطرة” كشهابٍ يُضيء سماءَ العقيدة والعقل، ويُزيل بسحره الأدبيّ والعلميّ غشاوةَ الشكوك، ليُرسي قواعدَ اليقين على بساط الفطرة السليمة. هذا الكتاب، الذي خطَّه مؤلفٌ جمع بين عبقرية المنطق ورشاقة البيان، ليس مجرد صفحاتٍ تُقلَّب، بل هو رحلةٌ فكريةٌ تتنزَّه بين شواطئ الشرعِ وصفاءِ العقل، لتُبرهن أن الدينَ الإسلاميَّ هو دينُ الفطرةِ التي فطر اللهُ الناسَ عليها.
    يعتبر “دين الفطرة” لوحة فكرية بألوان العقل والوحي ويَتميّز “دين الفطرة” بتنوع محاوره بين الفلسفةِ والدين، والمنطقِ والوجدان، حيثُ ينسابُ المؤلفُ عبر فصول الكتاب بسلاسةِ العالمِ المُحنَّك، فيُقدّم حججًا عقليةً تُلامسُ القلبَ قبل العقل، وتستند إلى نصوص الوحي دون أن تُغفلَ لغةَ العصر. فالكتابُ يُجسّدُ “المنهجَ العلميَّ الجديد” الذي وصفه النقاد، حيثُ يبدأ بالقواعد الفكرية العامة، ثم ينزلُ بها إلى واقع الإيمان، مُبتعدًا عن التقليد الجاف، ومُعتمدًا على إثارةِ التفكير النقديِّ العميق.

        لعلَّ أبرزَ ما يُميّز هذا السفرَ القيمَ هو جودةُ الاستدلال، فالمؤلف  لا يكتفي بعرض الأدلة النقلية، بل يُحوّلها إلى مصابيحَ عقليةٍ تُنير للقارئ طريقَ اليقين. كما أنَّ أسلوبَه السلسَ — رغم عمق المضمون — يجعلُ الكتابَ قابلاً للقراءة من قِبَلِ الخاصّة والعامّة، وكأنه يُخاطبُ الفطرةَ النقيةَ في كلِّ إنسان.
     وراء هذا العملِ الفذِّ يقفُ عالمٌ موريتانيٌّ تميّزَ بابانه يجمع بالعلم والاجتهاد معًا، فجاءَ كتابُه مُزوّدًا بسلاحِ العِلْمِ وأدبِ الحِكمة. إنه نموذجٌ للعالمِ المُجدّدِ الذي يُخرجُ التراثَ من قوالبه التقليدية إلى آفاقِ الحوارِ مع العصر، دون أن يفرّطَ في أصول العقيدة.
      لقد قدّم المؤلفُ — عبر “دين الفطرة” — خدمةً جليلةً للأمة الإسلامية، إذ كشفَ عن روعةِ الإسلامِ كدينٍ يتّفقُ مع الفطرةِ والعقل، وردَّ — بأدبٍ وعمقٍ — الشبهاتِ التي تُثارُ حوله. ولذلك، فإنّ الكتابَ يستحقُّ أن يُدرج في قائمةِ المراجع الأساسيةِ لكلِّ باحثٍ في الفكرِ الإسلاميِّ والفلسفةِ الدينية.
     “دين الفطرة” ليس مجردَ كتابٍ يُضاف إلى المكتبة الإسلامية، بل هو إنجازٌ فكريٌّ يُعيدُ تعريفَ الحوار بين الدين والعقل. وموريتانيا — أرض المليون شاعرٍ وعالم — تُقدّمُ من خلاله نموذجًا حيًّا لعلمائها الذين يجمعون بين الأصالةِ والابتكار.
فالشكرُ كلُّ الشكرِ لمؤلف هذا الكتاب، الذي أضاءَ بعلمِه طريقَ الحق، وجعلَ من الفطرةِ دليلًا إلى الإيمان. ولتظلَّ موريتانيا — كما عهدناها — منارةً للفكرِ والعلم، تُخرّجُ لنا رجالًا يُجدّدون للأمةِ دينَها وفكرَها بكلِّ إخلاصٍ وإبداع.
     بقلم كاتبٍ يُقدّرُ جهودَ العلماءِ الذين يبنون جسورَ اليقينِ فوقَ بحارِ الشكوك.
     الدكتور طه حسين الجوهري مصري الجنسية
محاضر بكلية الدراسات الإسلامية وكلية العلوم الانسانية بالجامعة الإسلامية بمينيسوتا الامريكية- قسم الدراسات الإسلامية باللغة الإنجليزية.
مدير مركز البحر الاحمر للدراسات والتنمية المستدامة.

شاهد أيضاً

حين يصمت الجمهور ويصدح الضمير: قراءة في بيان الشيخ بسام جرّار/المرابط ولد محمد لخديم

في خضم النقاشات المحتدمة والآراء المتباينة حول الخيارات السياسية والعسكرية للمقاومة الفلسطينية، ظهر خطاب قصير …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *