إن تاريخ الحملة الفرنسية في صعيد مصرمازال حقلا بكراً ينتظرالكثيرمن الجهود المضنية لكشف هوامشه المجهولة وكنوزه الدفينة ، وصفحاته المطوية، والتعرف علي أحداثه فنحن أمام بحر لا ينضب من الأحداث والمجريات التي لم تجد من يسلط الضوء عليها من المؤرخين وتحتاج الكشف عنها والبحث فيها وأغلب هذه الأحداث تتناقلها الأجيال من خلال أقاصيص شفهيه يحكيها الأجداد لأحفادهم خاصة في تلك القري التي لعبت دورا رئيسيا في مقاومة الحملة.
ومن المؤسف أنه لم يصل إلي أسماعنا عن بطولات أهل الصعيد وما فعلوه بجيش الشرق إلا القليل وأغلبه من خلال كتابات[1] عالم يمني عاصر الحملة على مصر أخذ يوثق ما نقله له حجاج بيت الله الحرام من أهل مصر و من أهل المغرب العربي الماريين بها والذي لعب دورا كبيرا في الكشف عن الأحداث التي سقطت سهوا ومن يدري قد تكون عمدا من مؤرخ مصر الأول ومصدرنا الاكبر حول الحملة المؤرخ العظيم عبد الرحمن الجبرتي ، فلم نكن نعلم الكثيرعن مقاومة الصعيد إلا من خلال اعترافات ومذكرات قادة الحملة وضباطها انفسهم.
ومن ابرز الاشياء المجهولة في تاريخ هذه الحمله هو شخصية قائد المقاومة في صعيد مصر .فحتى يومنا هذا لم يصلنا عن هذه الشخصية معلومات سوى اسمه وأنه قدم على رأس العرب الحجازين
كما أن هناك خلط بينه وبين ابن أخته الشريف حسن الذي يتحدث عنه اغلب المؤرخون الفرنسيون بصفته قائد المقاومة الأول ويتغافلون عن ذكر الشيخ محمد الجيلاني….
والشيخ الجيلاني اسم لا يتردد كثيرا على ألسنة المؤرخين والمهتمين بتاريخ الحملة رغم أنه لعب دورا كبيرا في فشل الحملة علي مصر وهروب نابليون من مصر. وقيادة مقاومة شرسة جمعت أهل الصعيد والحجازيين والمماليك تحت لوائها…
و محمد الجيلاني الهاشمي المغربي كما يصفه لطف الله جحاف فكتابه درر نحور الحور العين محمد بن أحمد المختار السباعي الهاشمي المغربي ، يعود نسبه إلى مولانا أبي السباع عامر الهامل بن حريز بن محمد بن عبد الله بن إبراهيم بن إدريس بن محمد بن يوسف بن عبد المنعم بن عبد الواسع بن عبد الدائم بن عمر بن سعيد بن عبد الرحمان بن سالم بن عزوز بن الكريم بن خالد بن سعيد بن عبد الله بن زيد بن رحمون بن زكرياء بن عامر بن محمد بن عبد الحميد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد بن مولانا الإمام إدريس الأزهر بن مولانا الإمام إدريس الأكبر(رضوان الله تعالى عليه) بن أبي محمد عبد الله الكامل المحض(رضوان الله تعالى عليه) بن الحسن المثنى عليه السلام بن مولانا أبي محمد الحسن السبط المجتبى عليه السلام بن مولانا الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه زوج فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين بنت رسول الله محمد بن عبد الله أفضل المرسلين وعليه وعلى اله الطيبين الطاهرين أفضل الصلوات والتسليم .
ولعل انتساب محمد الجيلاني إلى أهل البيت كان سببا رئيسيا في التفاف أهل مصر حوله . فالتاريخ يشهد على حب اهل مصر الشديد لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتفافهم حول كل من ينتمي إلى بيت النبي وتشببثهم بأفرد آل البيت وقوة اعتقادهم في دعواهم ، خاصة اذا ظهرت تلك الدعوة في ظروف حالكة السواد تمر بها الأمة كالغزو الأجنبي أو الثورات والفتن.
ولد الشيخ محمد الجيلالي في ضواحي مدينة مراكش (المغرب)، وتوفي في قرية إحكاز [2]( والمقصود بها قرية حجازة في صعيد مصر).عاش في بلاد شنقيط ومصر والمغرب وسافر إلى الحجاز حاجًا.درس على عدد من رجال العلم في بلاده، فتلقى عنهم العلوم الشرعية وعلوم اللغة، وجمع كثيرًا من العلوم مع اتساع الحفظ والباع فى الأنظار والمفهوم. اشتغل بالتدريس، فتلقى عنه عدد من الطلاب في مختلف علوم اللغة والشريعة، وذاع صيته في منطقة الغرب الإسلامي، فكان بارزًا بين علماء عصره.[3] وترجم له تلميذه محمد التهامي الحميري الاوبيري فدعاه باسم ” سيدي الجيلاني بن أحمد المختار السباعي” ” كان صاحب الترجمة آية من آيات الله في الإتقان، والعلم والعرفان والايقان، لا يكاد يوجد مثله في زماننا هذا، ولا يبعد أن يكون هو المجدد على رأس المئة لكثرة ما جمع من العلوم، مع اتساع الحفظ والباع في الأنظار والمفهوم، بحيث لا يجارى في الحفظ ولا يبارى، ولا يغالب في صحة الفهم ولا يمارى، حتى قيل: إنه استجمع واستظهر كتاب (القاموس) حفظا واتقانا، وهذا أغرب ما يكون في هذا الزمان، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، لله الامر من قبل ومن بعد.[4]
قال الاوبري في كتابه المذكور: ” له من الحفظ ما تحار فيه الافكار ويلتبس بشبهة الانكار، يحكي عنه أنه قال : ما ألقته ولو مرة أذني او عيني في مخيلتي ارتسم نحو السته اشهر في حفيظتي. وقد حدثني القيم على سيدنا عبد الله بن عباس في الطائف قال : خرج معنا مره عشيه فسردنا عليه نحواً من ثلاثه كراريس في الحديث جمعها بعض العلماء في تحريم لبس الحرير ،ثم خرجنا من الغد فسردها علينا كلها من حفظه بمجرد سماعه ،قال وكان يقرأ التفسير بين العشاءين بالمسجد النبوي، فقضينا العجب من حفظه ، وكان تفسير القرطبي قرأه في صغره حفظا . قال: وجه له السلطان مولاي سليمان مائتي دينار بالتثنيه مع الفقيه الزروالي وقال له: انها لم تدخل بيدي بل كما اتت من دار الاعشار بالرباط فاقبلها قال فقال له المترجم : ان كانت كما قلت فليقضي دينه الذي عليه او على ابيه فان الدين لا يقضي الا من الحلال، واما انا فأغناني الله عنها، وردها عليه. وذكر ايضا انه اخبره ان السلطان المذكور ارسل له يطلب منه الدعاء قائلا :”اني اتكلف العدل ما امكنني، فقلت له :فكيف تعدل وانت تولى على المسلمين العمال الظالمين مثل فلان وفلان ولو كنت تريد العدل لوليت العلماء الاتقياء مثل بن عبد السلام الفاسي وسيدي على ابن احمد الوزاني قال: فقلنا له مثل من ذكرت لا يتولون، قال تجبرهم على الولاية، اهم خير من ابي بكر وعمر قال: وكان السلطان المذكور ارسل الى الشيخ الرهوني ليوليه القضاء في وازان فامتنع ، فقال له سيدي علي بن احمد الوزاني: اطع السلطان فقال بشرط ان تكون انت عدل معي”[5]
قام هذا الشيخ بدور كبير في دعوة أهل الحجاز للدفاع عن مصر ومساعدة اخوانهم من أهل الصعيد في مقاومتهم ضد هذا المحتل الغاشم فاستجاب له أهل الحجاز والتف حوله مايقرب من 4 الاف متطوع من أهل الحجاز استطاعو أن يذيقوا جيش الشرق مرارة الهزيمة في موقعتين الأولي موقعة القصير البحرية ثم موقعة البارد بالقرب من مدينة قنا وسنتكلم عنهم في موضع اخر
[1] فقد جزء كبير من هذه الكتابات ولم يتم العثور على اهم مخطوطات الكاتب في هذا المجال وهو” كتابه قرة العين بالرحلة إلي بلاد الحرمين”
[2] المقصود بها قرية حجازة قبلي التابعة لمركز قوص بمحافظة قنا ويبدو ان أهل المغرب يسموها احكاز
[3] معجم البابطين لشعراء العربية في القرن التاسع عشر
4 الدكتور حماه الله ولد السالم” حجاج ومهاجرون علماء بلاد شنقيط(موريتانيا) في البلاد العربية وتركيا من القرن التاسع الي القرن الرابع عشر، طبعته الأولى عن دار الكتب العلمية ، بيروت 2012، ص117 -119