على مقعد الحافلة: سردية غياب الحضارة وعودة الأسئلة!!/ المرابط ولد محمد لخديم


من فكرة تجربة يومية بسيطة: عن واقع أنواكشوط تتحول إلى تأمل في فقدان القيم الحضارية الحقيقية في المجتمع، حيث نعكس هذه الرحلة أزمة اجتماعية وثقافية تعيد طرح تساؤلات عميقة حول الهوية والوعي الجمعي…).
على غير العادة، ركبت اليوم حافلة النقل العمومي التابعة لشركة النقل الحضري في نواكشوط، على خط “الصكوك – بيك ماركت”. كانت المفاجأة سارة: حافلة نظيفة، مكيّفة، مريحة، وبتذكرة رمزية.
      لكن ما استوقفني أكثر من راحة المقعد هو نظرات الدهشة التي وُجهت نحوي، وكأنني ارتكبت فعلًا غير مألوف!
تذكرت أيام دراستي في الخارج، حيث تستقل الحافلةُ الطالبَ والأستاذ، الغنيّ والفقير، دون حرج أو استغراب. أما هنا، فما زالت الذهنية البدوية تُحيط الحافلة بنظرة دونية، في مجتمع يعلي المظاهر على الجوهر، ويقيّم الإنسان من خلال مركبه لا فكره.
      في هذا الفضاء المتحرّك، كنت أستمع إلى نقاشات خفيفة ومحاضرات من إذاعة الحافلة، وأستخدم هاتفي بكل راحة.
مشهد لا توفره سيارات الأجرة المتآكلة التي تتكدّس فيها الأجساد، وتُضاعف الأجرة أربع مرات بلا مبرر سوى “ثقافة المظهر”.
     تأملت العقلية التي تحكمنا. فئة من أبناء هذا المجتمع، ميسورو الحال من الجنسين، يعيشون نمطًا منفصلًا عن الحياة الطبيعية: يسهرون حتى الصباح، ينامون حتى العصر، ثم ينطلقون في جولات ليلية لا تنتهي.
ويمكن اختزال هذا النمط الحياتي في معادلة صادمة:

  العقل + القلب = البطن + الفرج
     معادلة تُلخص الصراع الأبدي في الإنسان بين غرائزه وشهواته من جهة، وعقله وقيمه من جهة أخرى.
فإما أن ينتصر العقل ويصعد بالإنسان نحو الفضيلة، أو تنتصر الغرائز وترديه في مستنقع الأنانية والبذخ والانفصال عن هموم المجتمع.
     تلك القيم السامية — كالكرم، والشجاعة، والصدق — لا تُكتسب إلا بمعاناة ومجاهدة للنفس.
والخلل في مجتمعنا أن كثيرًا من السلوكيات ترتدي لباس الفضيلة، لكنها في حقيقتها مجرد مسايرة لموجة لا تمثل وعيًا حقيقيًا.
    وهنا يبرز سؤال مشروع: لماذا تفشل الدراسات الاجتماعية عن مجتمعنا؟
    لأنها غالبًا ما تكتفي بوصف السطح، وتتجاهل الجذور العميقة الكامنة في الذات.
    فكم من حلول مؤقتة عُرضت، لكنها لم تلبث أن انهارت، لأنها لم تُجفف المستنقع الذي يفرّخ المشكلة، بل اكتفت برشّ البعوض بالمبيدات!
     نحن بحاجة إلى معالجة ذاتية، فكرية وأخلاقية، تبدأ من فهمنا لأنفسنا، ولموقعنا من الحضارة، ولمتطلبات المرحلة.
هل يستطيع فقهاؤنا ومثقفونا اليوم إنتاج رؤية إسلامية تستوعب منجزات العصر، وتقف على أرضية شرعية؟
سؤال مفتوح… يحتاج إلى إرادة معرفية، وشجاعة ثقافية، لا إلى خطب إنشائية.
     فلم نعد “لفريك” الذي تسعه “أطناب الخيمة”. نحن اليوم أبناء قرية كونية، تحكمها التكنولوجيا، وتفرض معاييرها علينا جميعًا.
     التحولات الاقتصادية، وارتفاع القدرة الشرائية، وتغير أنماط الوقت، كلها أحدثت خلخلة في بنية المجتمع.
فنشأت الفردانية، وتمددت الثقافة الجماهيرية، وأصبحت نماذج القدوة عند الشباب هي نجوم الموضة، وسيشيوميديا، وأبطال الإعلانات.
      وفي مقابل هذه السطوة الجديدة، ما زال بعض الكُتّاب يكررون حكايات الأولياء، ويغوصون في أحلام الماضي، وكأن الواقع لا يصرخ بما هو أهم.
     إن شبابنا يحتاج إلى فكر حي، معاصر، لا يخاف من مواجهة المعضلات، ولا يذوب في شعارات التغريب.
المادة اليوم تحكم الثقافة، والتاجر ينافس المفكر.
الرأسمالية المتوحشة تعيد تشكيل أذواقنا، وتفرض منظومتها على الجميع، حتى لم تعد قيمنا القديمة قادرة على مجاراتها.
      ينشأ شبابنا في هذا الواقع، ويشيخون فيه، ويموتون دون أن يتذوقوا حلاوة المعنى في الحياة.
لكن، في الطرف الآخر، ما زالت فئة صامتة تستيقظ فجرًا، تفطر بعد الصلاة، وتسعى في الأرض طلبًا للرزق، محافظة على إيقاع الحياة الطبيعي، تنبض فيها الفطرة، بلا بهرجة ولا تصنع.
      وبين هؤلاء وأولئك، فئات تتأرجح، تبحث عن هوية، عن توازن بين الأصالة والمعاصرة، بين حاجات الجسد ومطالب الروح.
      لقد آن الأوان أن نتوقف عن النظر إلى الواقع من نافذة الماضي فقط، وأن نمتلك الجرأة لنفكر، وننقد، ونسأل:
ماذا نريد أن نكون في عالم لا ينتظر المتخلفين؟
هل نملك شجاعة التغيير من الداخل؟
هل نعيد تأسيس وعينا على أرضية شرعية، عقلانية، واقعية؟
     الجواب ليس عند الحكومات وحدها، بل عند كل فرد فينا.
وقد يتساءل البعض:
     “كيف لرحلة قصيرة في باص عمومي أن تتحول إلى تأمل عميق في أحوالنا بين أصالة مهددة وحداثة مشوهة؟”
والجواب ببساطة: إنها عقلية الكاتب.

شاهد أيضاً

لهذه الفوائد لن نرمي نواة البلح بعد الآن!/المرابط ولد محمد لخديم

    يتزامن هذا الاكتشاف الطبي المثير مع موسم “الكيطنة” في موريتانيا، حيث يكثر استهلاك …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *