المختار ولد داداه… مدرسة النزاهة وزهد القادة!!/المرابط ولد محمد لخديم

 


في تاريخ الشعوب لحظات مضيئة تصنعها شخصيات استثنائية، وكان الرئيس المؤسس المختار ولد داداه من أولئك القادة الذين جمعوا بين الحكمة والحنكة السياسية ونقاء اليد.
      كنت قد نشرت الأسبوع الماضي مقالًا بعنوان: الأب المؤسس المختار ولد داداه من طينة العظماء، تحدثت فيه عن شخصية هذا الزعيم الذي واجه تحديات جسيمة بعد استقلال موريتانيا سنة 1960م، حين لم تكن هناك عاصمة مشيدة، ولا بنية تحتية، ولا مؤسسات قائمة. ورغم ذلك، استطاع بحكمته ودبلوماسيته أن يضع الدولة الموريتانية على خريطة العالم بثبات واقتدار.
       ومن أبلغ الشهادات في حقه ما قاله الرئيس الزائيري موبوتو: “لو وجدنا عشرة مثلك، لما عانت إفريقيا!”
وقد جاءت كلماته بعد أن تبرع المختار ولد داداه بمبلغ خمسة ملايين دولار، كانت هدية شخصية من موبوتو لشراء بدلات فاخرة، لصالح بناء المدرسة العليا للتعليم (ENS)، ليخلّد بذلك أجيالًا من المتعلمين بدل أن يخلّد ثيابًا فاخرة في خزائن القصور!
       هذا المقال جاء ليبرز نزاهة وزهد ذلك الجيل الذي كانت الأموال العامة فيه تُصرف فقط لمصلحة الشعب. لقد ترك المختار ولد داداه إرثًا من القيم والفضائل يجعله من رجال الدولة الخالدين الذين لا تموت سيرتهم.
       وبسبب تفاعل الناس مع المقال وأهميته، رأيت أن أستعرض اليوم شهادات إضافية تخلّد هذه القامة التاريخية، وتذكرنا بزمن جميل عنوانه العفة والأمانة، خاصة حين يتعلق الأمر بالمال العام.

شهادات حيّة على نزاهة المؤسس

      الدكتور محمد سيديا ولد خباز الرئيس السابق لجامعة أنواكشوط يحكي أنه في سبعينيات القرن الماضي كان الموظف يعيد بدل السفر les frais de mission إلى خزينة الدولة إذا لم يصرفه. وقد أخبره محمد يحظيه ولد الطلبة أنه كان برفقة وزير التهذيب الوطني آنذاك ممدو با آمدو (Mamadou Ba Amadou) في زيارة لبعض الدول الإفريقية. وأثناء عودتهم توقف الوزير في السنغال لزيارة أقاربه، ولما سأل ولد الطلبة الوزير عن مصير بدل السفر، أجابه:
      “سلمه إلى مدير الديوان محمد عالي شريف ليأمره بإيداعه في الخزينة العامة واستلم وصلاً بذلك!”
أي روح عالية هذه التي لم ترَ في المال العام ملكًا خاصًا؟!

   غياب مفهوم الدولة اليوم
        برأيي، فإن جهل مفهوم الدولة هو ما جعل الناس اليوم يلهثون وراء المال، ويغرقون في حب المظاهر من سيارات فارهة وفيلات فخمة وبذخ في المناسبات، حتى صار كل شخص يُقاس بما يملك لا بما يقدم، وكأن الشعار: “آفكراش… راجل… وخيرت… وورخست لمن يدفع أكثر!”
لقد اختفت المعرفة في موريتانيا (شنقيط المنارة والرباط)، وغاصت الثقافة في مياه آسنة! فهل نتأسى بمناقب جيل التأسيس لنستعيد معنى الدولة؟

شهادة الرئيس المالي الأسبق موسى تراوري

    أثناء محاكمته بتهم فساد، قال:
“هذه صفات يتصف بها كل الرؤساء الأفارقة، ولم ينجُ منها إلا واحد: الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه.”

     يحكي سالم ولد ببوط، حاكم بتلميت (1967–1977)، أن الرئاسة اتصلت به لإبلاغه بزيارة شخصية للرئيس للمدينة.
استقبله عند المدخل، وأخبره المختار أنه جاء ليسلم على والدته خديجة بنت محمود ولد إبراهيم. وحين وصل إلى كوخها فوجئ بأعطاب بالغة فيه. فقال للحاكم:
“أرجو أن تعيرني 12 ألف أوقية لأصلح كوخ الوالدة، وستأتيك أمامة بنت بابي غدًا لتسلمها.”
      وفعلًا، جاءته أمامة في اليوم الموالي بالمبلغ. وبعد أشهر، سلّمه المرافق الشخصي للرئيس 12 ألف أوقية مع ورقة كتب فيها:
“Les bons comptes font les bons amis.”
(الحسابات الدقيقة تصنع الأصدقاء الأوفياء).

قصة هبة موبوتو سي سيسيكو
    يقول التجاني ولد كريم إن العسكر بعد انقلاب 1978م أرادوا تشويه سمعة المختار ولد داداه، فاستدعوا أحمد ولد أعمر ولد أعلي –الذي كان قد أُقيل من منصب أمين الخزينة العامة– ليشهد عليه بالفساد.
فقال لهم:
      “لا أستطيع أن أشهد عليه بالفساد، لكن أذكر أن الرئيس طلب مني يومًا حضور مكتبه، فوجدت معه وزيرًا افريقيا وأكياسًا من العملة الصعبة. قال لي: هذه هدية شخصية من الرئيس (موبوتو) لكنني أفضل أن تضاف إلى خزينة الدولة مقابل وصل.”
      لقد أودع المبلغ الكبير في خزينة الدولة واستلم الرئيس وصله!
       رحم الله الأب المؤسس المختار ولد داداه، فقد كان قائدًا فذًا، أمينًا، شريفًا، عفيفًا، متواضعًا، سخّر ذكاءه وعلاقاته الدولية من أجل رفعة الوطن.
      ألا تستحق هذه الشهادات أن تكون مصدر فخر لكل رئيس عربي أو إفريقي، وأن نستلهم منها معنى الحكامة الرشيدة بدل الفساد والاستحواذ على المال العام؟!

شاهد أيضاً

قصة الباكلوريا baccalauréat أو (الثانوية العامة)؟!/ المرابط ولد محمد لخديم

     يبدأ اليوم الثلاثاء الموافق 9يوليو 2024م على عموم التراب الوطني الموريتاني امتحان الباكلوريا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *