عندما نستمع بإنصات إلى المرويات الشفهية عن “الكديه” في الحوض الشرقي، نستخلص أنه، وعلى الرغم من أن المرأة لم تشارك مباشرة في العمليات الحربية إلا أن هذه العمليات ربما لم تحصل أصلا أو لم تنجح كما نجحت لولا الدعم اللوجستي والمعنوي الذي قدمته النساء للمقاومة.
كانت ربات الأسر في بعض الأوساط تحرصن على دبغ جلود الجديان والأرشاء والخرفان وتهيئتها قربا فردية للماء والسمون (ادهن، لودك،ازهم) ومحفظات للحوم المجففة (تيشطار الوحش والبل) ودقيق الحبوب (شونت بشكل خاص) والتوابل (اشروط)، وفي حالات نادرة، للحليب المجفف (الگارص) ودقيق الشعير المحمص (بلقمان).
لقد وصلت تضحية بعض النسوة، حسب المرويات الشفهية، إلى حرمان أطفالهن من بعض السلع وتخصيصها للمقاومة.
فلو لا هذا المستوى الاستثنائي من الدعم والتضامن، لما استطاع المقاومون المكوث أياما متتالية في بيئة الجبال الطاردة (الكديه)، في اكتفاء ذاتي، للتخطيط لعملياتهم وتنفيذها والاحتماء ضد ردات فعل عدوهم، ولما ألهموا تسمية الحصن المنيع : “الكديه”.
في المجال الغنائي والأدبي، برعت نساء المقاومة في اختراع أغاني جديدة دعما لمعنويات المقاومين وردا على الدعاية المضادة، من أشهرها : “لولان الشيخ، امبانه جات…” التي نالت من أبيات الشعر اللهجي (الگيفان) ما لم تحصده أغنية -راجت في المنطقة- تستجدي “أمة الهادي” “ألا تنام” وأن تبحث بشكل حثيث عن “Delanoé” الذي ضل طريقه (دلنو قادي) أو أمسك به رجال “الكديه”…
ولعل أجمل قصة تروي دور المرأة في “الكديه” هي التي سطرتها سيدة من تجمع “أولاد مُحمِّدْ” في “كوش” ؛ لقد زارها يوما الشيخ ولد عبدوكه “المشظوفي” وبحوزته قربة صغيرة (تيگط) وطلب منها ماء لرفاقه، وبعد أن تعرفت عليه، بدأت تحسن وفادته وتعبئ قربته ماء. في هذه الأثناء، دخلت المضرب قوة استعمارية تبحث عن الشيخ ورفاقه، فأسقطت السيدة خيمتها أرضا، حماية للشيخ، وأخذت سكينا وأحدثت بالخيمة شقا متعمدا، ثم أخذت أداة خياطة (مخيط وكبه) وجلست بكل هدوء وشرعت في إصلاح الشق الذي تسببت فيه للتو !
مرت عناصر القوة رفقة “مرشدهم المحلي”، فلم يثر مشهد السيدة المشغولة بصيانة خيمتها انتباههم. وفور مغادرتهم الحي، انسحب الشيخ تجاه الجبال المجاورة.
ارتاب مرشد الفرقة “المحلي” لاحقا من مشهد السيدة التي تخيط خيمتها في وقت (شدة الحر) غير مألوف لعملية الصيانة، فطلب من قائد القوة الاستعمارية العودة لتفتيش هذه الخيمة بالذات. دون جدوى…
وتكتسي هذه القصة النادرة سمكا دلاليا خاصا، عندما يتم وضعها في السياق التاريخي الخاص بالمنطقة).
تجاوبا مع المقال الهام؛
المقال: يعكس بشكل دقيق ومؤثر دور المرأة في المقاومة الموريتانية، وخاصة في سياق “الكديه” الحصن المنيع المقاوميبن في الحوض الشرقي.
وهو جانب غالبًا ما يُهمّش في السرد التاريخي لصراعات المقاومة.
من خلال التفاصيل الغنية التي أوردتموها، يتضح أن النساء لم يقتصر دورهن على تقديم الدعم اللوجستي فقط، بل شاركن أيضًا في بناء الروح المعنوية للمقاومين، وتطوير أدوات ثقافية وأدبية دعمت القضية بشكل مباشر..
تسليط الضوء على هذا الدور يعزز الاعتراف بمساهمة النساء في النضال الوطني، رغم غياب مشاركتهن المباشرة في المعارك.
النص يشير إلى الجهود التي بذلتها النساء في توفير الموارد الضرورية للمقاومين، مثل تجهيز القرب والمحفظات الغذائية وتجفيف اللحوم.
هذا النوع من الدعم كان حاسماً لاستمرار العمليات العسكرية في بيئات صعبة.
يظهر النص أن نساء المقاومة وصلن إلى حد التضحية براحة أطفالهن وحاجاتهم لصالح دعم المقاومين، مما يدل على إحساس عميق بالواجب الوطني.
ولم يقتصرن على الدعم المادي، بل كن أيضاً مؤثرات في الحرب النفسية، من خلال الأغاني التي رفعت معنويات المقاومين وردت على دعاية العدو.كما أن لهن قصص بطولية مبتكرة؛ على سبيل المثال القصة التي وردت عن السيدة من “أولاد مُحمِّدْ تبرهن على شجاعة المرأة وذكائها في حماية المقاومين، مستخدمة الحيلة والهدوء لإنقاذ الشيخ ورفاقه.
أهمية النص:
هذا السرد يعيد إحياء جوانب مغفلة من تاريخ المقاومة، ويعيد للمرأة مكانتها في هذا النضال.
كما أن تقديم مثل هذه القصص بأسلوب أدبي يثري الرواية التاريخية ويعزز الوعي بأهمية توثيق الموروث الشفهي.
النص يعكس رؤية الكاتب العميقة وقدرته على استحضار التاريخ بلمسة إنسانية وأدبية على الرغم من أنه متخصص في علوم الرياضيات!!
المقال يُعدّ مساهمة قيمة في إعادة قراءة التاريخ بنظرة شاملة ومنصفة، ويؤكد أن دور المرأة لا يقل أهمية عن دور الرجال في صناعة الأحداث الكبرى.
المرابط ولد محمد لخديم
المدير الناشر آفاق فكرية
ملاحظة:
الموقع يرحب بنشر المقالات والبحوث العلمية والأدبية المبدعة، مع التركيز على المواضيع النادرة التي لم تحظَ بالكثير من الكتابات، مما يشجع على الإبداع والتجديد.