
خلال مشاركتي في مهرجان مدائن التراث (الدورة الرابعة عشرة) المنعقد هذا العام في وادان، ممثّلًا منتدى الفائزين بجائزة شنقيط إلى جانب رئيس المنتدى الدكتور محمد ولد أخظانا، لفت انتباهي ذلك الإبداع الواداني الأصيل الذي تجلّى في فضاءات مدينة التراث.
وكان من أبرز تجلّياته تجسيدُ موقع قلب الريشات (عين الصحراء) في لوحة فنية مزجت الأسطورة بالخيال والإبداع التشكيلي، في صورة آسرة تأخذ بالألباب، ولا سيما لدى المهتمين – مثلي – بهذا المعلم الفريد، الذي خصّصتُ له عشرات المقالات والدراسات على مدى أكثر من عقدين.
بداية الرحلة مع لغز حيّر العلماء
بدأ اهتمامي بقلب الريشات مطلع الألفية الثالثة، أثناء انشغالي بقضايا الفضاء والظواهر الكونية الغريبة. وقد شدّني هذا التشكيل العجيب الواقع في منطقة آدرار، خاصة بعد تصنيفه من طرف وكالة ناسا ضمن أغرب عشرة مواقع حيّرت العلماء على سطح الأرض.
في تلك الفترة، كانت المراجع نادرة وشحيحة، ما جعل أول مقال كتبته عنه – «مواقع جيولوجية موريتانية محيّرة!!» – ثمرة جهد بحثي شاق امتدّ لسنوات، قبل أن يُنشر سنة 2016 على موقع موريتانيا الآن.
زيارة غيّرت مسار الاهتمام
عام 2005م، عزمتُ على زيارة الموقع ميدانيًا، فكانت الرحلة صادمة بقدر ما كانت كاشفة.
فرغم القيمة الجيولوجية الاستثنائية لقلب الريشات، وجدته مهملًا تمامًا، لا يكاد يزوره أحد، بفعل المخاوف الأمنية التي كانت سائدة آنذاك. وهناك أدركت حجم الكنز الذي نملكه… ولا نحسن تقديره.
يقع قلب الريشات على بُعد نحو 25 كلم من وادان، ويبلغ قطره أكثر من 35 كلم، ويبدو من الجو كعينٍ زرقاء هائلة محفورة في جسد الصحراء.
جدل علمي مفتوح منذ قرن
اكتشف الموقع العالِم الفرنسي تيودور مونو في ثلاثينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الجدل العلمي حول طبيعته: هل هو أثر نيزك؟ أم فوهة بركانية؟ أم نتيجة تعرية جيولوجية معقّدة؟
أحدث دراسة علمية معتبرة اطّلعتُ عليها، للباحث غيّوم ماتون من جامعة كيبِك، ترجّح أنه قبة صخرية تشكّلت بفعل صهارة هائلة قبل نحو 90 مليون سنة.
ومع ذلك، يبقى اللغز مفتوحًا، وهو ما يجعل قلب الريشات استثناءً علميًا نادرًا على مستوى العالم.
سنوات من التوثيق والكتابة
على امتداد سنوات، تابعتُ كل جديد علمي وإعلامي حول الموقع، وكتبتُ عشرات المقالات في صحف ومجلات ومواقع محلية وعربية ودولية، تناولتُ فيها:
الأهمية الجيولوجية للموقع، اهتمام وكالات الفضاء (ناسا، وكالة الفضاء الأوروبية، روسكوزموس)، فرص الاستثمار العلمي والسياحي، إشكالية الإهمال المؤسسي!!
ولا أخفي أن عددًا من وسائل الإعلام العربية والمحلية اقتبس مضامين كاملة من هذه الكتابات، أحيانًا مع الإشارة إلى المصدر، وأحيانًا دون ذلك.
اهتمام عالمي يسبق وعينا المحلي
تابعتُ بدهشة كيف تحوّل قلب الريشات إلى مرجع بصري لروّاد الفضاء، وكيف نُشرت مقارنات بينه وبين تضاريس على سطح المريخ في صحف عالمية.
بل إن رائد الفضاء الفرنسي توماس بيسكيه نشر صورًا له ظنّها للمريخ، قبل أن يتبيّن لاحقًا أنها لقلب الريشات.
ومع ذلك، ظلّ الإعلام الوطني بعيدًا عن مواكبة هذا الزخم العلمي والإعلامي العالمي.
خطوة رسمية… لكنها غير كافية
في 4 أكتوبر 2023، صادقت الحكومة الموريتانية على مرسوم لحماية قلب الريشات.
وهي خطوة تُحسب، لكنها تظل غير كافية ما لم تُترجم إلى:
رؤية علمية واضحة، استثمار سياحي مدروس
مؤسسة وطنية مستقلة، متعددة الاختصاصات، تُعنى بالمواقع الجيولوجية والأثرية
فرصة موريتانية تاريخية
مع انتهاء مهرجان مدائن التراث (الدورة 14) في وادان، تتجدّد الفرصة لتسليط الضوء على هذا المعلم الكوني، واستثمار الاهتمام الدولي المتزايد به.
لماذا يجب أن نتحرك الآن؟
لأن قلب الريشات: أندر ظاهرة جيولوجية معروفة، نقطة استدلال لروّاد الفضاء منذ عقود، مادة بحثية لأكبر المراكز العلمية، فرصة اقتصادية وسياحية فريدة، جزء من الهوية العلمية لموريتانيا.
لقد كتبتُ عن قلب الريشات أكثر مما كتبتُ عن أي موضوع آخر في حياتي، إيمانًا مني بأنه ليس مجرد تكوين جيولوجي غريب، بل كنز موريتانيا الكوني ونافذتها إلى العالم العلمي.
نحن أمام ظاهرة كونية مفتوحة على قراءات علمية متعدّدة، لكنّ التأخّر في تنظيم البحث وتثمين النتائج قد يجعل قلب الريشات موضوعًا عالميًا بلا مرجعية وطنية واضحة.
وعندها لن تكون الخسارة معرفية فحسب، بل اقتصادية أيضًا، لأنّ العلم حين لا يُحتضَن في موطنه، يُستثمر خارجه.
اضغط الرابط لترى الابداع الوداني المدهش:
https://www.facebook.com/share/v/1CxVcC22Ex/=AZY-LLvcZFFiwyTz_4-icWLmZXdDi73OzMovGMnyGgmwZLGZljZdlZsY5vKoDaVCaxhbk0wJ1Gxb1qLsJEaxcFNAVl5Fp0eFVLJ2AgQoQvCehfVYmobztuFlS0mMARDrgmI0swyXUvWBivF0lYVD1_ZyX_0wBwDCniLOwnua6WuNDo_oAOSxmyh0zrlmrFHjj2Y&__tn__=-UK-R]
المرابط ولد محمد لخديم النائب الأول لرئيس منتدى الفائزين بجائزة شنقيط.
آفاق فكرية بحث، معرفة، تبادل ثقافي