الإشعاع الثقافي والأدبي الموريتاني في الوطن الأفريقي والعربي/ الدكتور احمد ولد حبيب الله.

المقدمة
إن هذه العجالة غير الرائقة، أو الجرعة، غير الصافية أو النفحة غير المسكية، تحاول مخلصة أن تكون تذكرة أو ذكرى تنفع الباحثين المنصفين بما كاد أن يصير طي النسيان، أو طي الكتمان، من شأن الإشعاع الثقافي والأدبي الموريتاني في الوطن الأفريقي والعربي وهو ثمرة يانعة، وقطوف دانية، من جهود المحضرة أو الجامعة البدوية الموريتانية الظاعنة التي علمت بالقلم والدواة والقرطاس والحضرة الموريتانية المتنقلة أو المستقرة التي جاهدت ونشرت العلوم والمعارف العربية الإسلامية بالمصحف والسبحة وأشاعت التسامح والتصالح والصلاح بين الناس، فكانت بمثابة الشعلة الضوئية التي بددت ظلمات الجهل والأمية والخرافة بين الأدغال والجبال والتلال وبحار الرمال والماء، في الوقت الذي كان فيه أصحابها يفترشون الغبراء ويلتحفون الخضراء ويتغذون بالأسودين ويحافظون على الصلاة الوسطى وصلاة الأبردين..!! ويواظبون على التعلم والتعليم ليلا ونهارا وهم “يطيبون” “سوراتهم” و”كتباتهم” ويتسامرون ويتساجلون و”يتغابدون” ألواحهم على ضوء النيران اللاهبة أو الشمس الحارقة في ديارهم التي كانت –كما يقول شاعرهم:
دور بها قد “كررت” ألواحنا
        فيطيح ذا ويطيح ذا ولربما
كانوا إذا جاء الشتاء وأوقدوا
        و”تغابدوا” ألواحهم وتذاكروا
وغدوا على غسل الدروس وكتبها
      حتى إذا طلعت براح و”شكرت”
يأتون حبرا فاهما ومعبرا
      فيظل في تحريرها بثا لهم
و”تزارك” الأقوام بالإعراب
     نزل الطياح بأشمط عراب
بعريشهم حطب الغضا بالباب
    سحرا معاني “فصلها” و”الباب”
كتابها تهوي بكل كتاب
     بعد التمام كتابة الأنجاب
رأد الضحى وهم ألو الألباب
       كل الفنون نوادر وصعاب

وسوف نسمك خيمة العجالة بركيزتين هما:
أولا: الإشعاع الثقافي الموريتاني
يكاد يتفق أغلب الباحثين العرب والأجانب على أن الموريتانيين: “عرفوا لدى العرب (والأفارقة وبقية الشعوب) بثقافتهم الصلبة وتراثهم الناصع، ومجهوداتهم الواسعة في نشر الثقافة والدين الإسلامي، فكان لهم صيتهم السامي رغم محيطهم الصحراي الجاف وشظف العيش وانقطاع السبل”( )!!
إن للإشعاع الثقافي الموريتاني القوي في غرب أفريقيا له خصوصية: “تعود، بالأساس، إلى العامل الجغرافي، فالشناقطة (الموريتانيون) هم المصاقبون لبلاد السودان، وتعود هذه الخصوصية من جهة أخرى، إلى عامل ديمغرافي، فالهجرات الصنهاجية ثم العربية – أدت في كل مرة – إلى اندفاع القبائل الشنقيطية (الموريتانية) نحو الجنوب حاملة لغتها وثقافتها، ومنفتحة على المؤثرات الأفريقية..”( )، بل امتزجت هذه القبائل بالأفارقة الزنوج، امتزاج الماء باللبن او العسل..!!
ولذلك يؤكد بعض الدارسين الموريتانيين أنه: “ليس افتخارا ولا اغترارا بالنفس أن نؤكد السيادة الدينية والروحية لهذه البلاد (موريتانيا) على عموم غرب أفريقيا، ذلك دور تم في حلقات من التاريخ ماتزال مضيئة، وإن حاولت عناكب الليل إطفاءها بالأفواه، {ويأبى الله إلا أن يتم نوره}، ولو كره من يكفرون الخير، ويجحدون الفضل… والغريب أن الكثير من أبناء البلد يجهلون هذا الدور الذي من حقه أن يدرس في المدارس والمعاهد والجامعات، وأن ينص عليه داخل كتب القراءة، وبلغات التعلم المستخدمة كلها..ّّ يفخر هؤلاء بالشيخ عمر الفوتي (ت1280هـ)، وإنه لمبعث فخر، لكنهم يتجاهلون أنه خريج المدرسة الموريتانية (الحضرة والمحضرة)، حيث تربى على يد عبد الناقل الذي درس وتهذب على يد الشيخ سيدي مولود فال (الموريتاني) سنوات طويلة.!! وكل من تخرج على يد الشيخ عمر الفوتي إنما هو في الكفة الموريتانية.!!
“ولم يقف الإشعاع الموريتاني عند هذا الحد، بل تجاوزوه إلى نيجيريا الحالية التي واجه فيها الدعاة الموريتانيون ظروف جهادية لا تقل قساوة عن الظروف التي فتح فيها الصحابة الأوائل قصور ومدن الشام، وكان للموريتانيين في القرن الثاني عشر(م) وحتى الآن لهم دور كبير في ترسيخ الإسلام بالنيجر، ولهم نفس الدور في اتشاد وفي السودان، وحتى في دول تملأ الدنيا، فالشيخ محمد الحافظ المصري تلقى أمور التربية على شيوخ محمد دواليب السوداني الذي تخرج على يد سيدي مولود (الموريتاني) الآنف الذكر، إنه الدور الذي أعطى وأثمر وأينع.. إنه الدور الذي مازال يضغط على أضلع من كفروا النعمة… لكن عندما يظل هذا الدور مهملا على الهامش، لا يجد من يهتم له ويرسخه، يظل مجهولا في أوساطنا المثقفة والمؤرخة والعالمة، سيسهل على عناكب النفخ في الرماد أن تعشش من حوله..”( ).
ولقد أخلص الموريتانيون في نشر الإسلام السني “وشعروا بمسيس الحاجة إلى التفقه فيه، فاكبوا على معرفته، وتحصيله ودرسه داخل “رباطهم” المتواضع منذ القرن 5هـ.. ومنذ زهاء ألف سنة مضت برعاية إمامهم الفقيه ومرشدهم أو “مهديهم” في هذه الأرض، عبد الله با ياسين (ت451هـ) تمهيدا لحمل راية نشر الإسلام، والدعوة الإسلامية وبخاصة الهداية الحقة والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، ورفع لواء الجهاد في سبيل الله تعالى لهذه الغاية الشريفة داخل قطرهم الموريتاني، محاربين الفساد والانحراف، وناشدين للنور والحق والعدالة ثم خارج بلادهم في الأقطار المجاورة من بلاد السودان الغربي (السنغال ومالي مثلا) وبين ظهراني قبائل البربر في أجزاء من الجزائر والمغرب الأقصى، فبلاد الأندلس.
وبناء على طلب بقية من أولي الإصلاح والاستقامة في أكثر من بلد من هذه البلدان، مقيمين دولة الإيمان والعلم في ربوع إمبراطوريتهم المترامية الأطراف التي خضعت لحكمهم ردحا من الزمن، وشادوا فيها صرح منارة إشعاع ثقافي وديني واسع، كانت خيوط ضيائه الوضاء وتمتد إلى أرجاء منطقة الغرب الأفريقي، وبعد أن دانت لسيطرتهم أنحاء كثيرة من منطقة المغرب العربي. والأندلس الذي أنقذوه من السقوط وحكموه قرونا زاهرة..”( )!!
إن الإشعاع الثقافي حافظ عليه الموريتانيون منذ ظهور الإسلام في صحراء الرمال أو اللثام في القرن الأول الهجري وما زالوا يحافظون عليه وهم يجوبون ديار العروبة والإسلام، سفراء لبلادهم، مفصحين عن عبقريتها، حاملين منها العلم والأدب: رسالة حياة، وشهادة انتماء، فيلقون بالإكرام والتجلة أينما حلوا، تحل بهم شنقيط (موريتانيا) في القلوب، قريبة مكينة، وإن بعدت الشقة، كان المسلمون في أفريقيا السوداء وفي الحجاز ومصر والسودان.. وغيرها من ديار العروبة والإسلام يرون صورة العلامة الأديب، الحافظة في كل قادم من تلك الصحاري النائية التي تعانق رمالها شطآن المحيط الأطلسي وضفاف نهر السنغال… بالعلم والمعرفة، كانت للشناقطة (الموريتانيين) فتوحات في أعماق أفريقيا ونفحات في البلاد العربية وآسيا، وكان القلم والسيف رضيعي لبان، وفرسي رهان، على أن للقلم عندهم صولة لم تكن للسيف”( )!!
وظل الإشعاع الثقافي والروحي الموريتاني ذا مناعة قوية، لأن: “موريتانيا تمثل بحق، أرض لقاء، فهي بحكم موقعها، تشكل حلقة ربط بين الشمال والجنوب، وملتقى للمبادلات، وممرا للثقافات الواردة من كل جهة…
إن موريتانيا أمة من الفاتحين والبناة، فبالأمس انطلق المرابطون من مشارف الصحراء، ليؤسسوا في أقصى شواطئ المتوسط حضارات شامخة ستظل إلى الأبد ماثلة في ذاكرة التاريخ..”( )!!
ومن المعروف أن مؤسسي المدارس العربية الإسلامية في غرب أفريقيا وخاصة السنغال وغامبيا، ومالي هم خريجو المحضرة المرويتانية، ذلك أنه في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أسست مدرستان عربيتان في السنغال، إحداهما في قرية “قجلن” والأخرى في قرية “بقي” ولا يوجد عالم في جمهورية غينيا أو في جمهورية مالي إلا وقد أخذ منهما أو تعلم من من تعلم منهما..”!!
ومن خريجي هاتين المدرستين: الشيخ هاشم ألفا الذي كان مدرسا في المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة وتتلمذ على هذا الشيخ السنغالي البارز الشيخ الزغيبي إمام المسجد النبوي والشيخ عبد الله مؤرخ الحرم المكي.!!
ومن مؤسسي المدرستين المذكورتين: أحمد مختار آن تلميذ الحارث بن محنض الشقروي الموريتاني (ت1319هـ/1901م)، وعلى هذا السنغالي قرأ كثير من السنغاليين وهو أو من درس البلاغة والأصول تدريسا جيدا في فوتا بعد انقراض جيل عمر الفوتي.
ومن تلامذة الحارث المذكور آنفا مختار ساخو (ت1934م) الذي أسس مدرسة “بقي” كما أخذ السنغاليون عن سيدي محمد ولد داداه الأبييري وسيبويه موريتانيا بحظيه ولد عبد الودود (ت1358هـ) ومحنض بابا بن اعبيد الديماني (ت1277هـ) وغيرهم كثير”( )!!
وهكذا نبتت العوائد الموريتانية برمتها في السنغال وظهرت في كل الميادين من جهة الدين والحقوق والفلسفة والأخلاق والملبس( ).. خاصة بين السنغاليين الذين كانوا يذهبون إلى موريتانيا للدراسة والتربية.!!
ويرى بعض الدارسين السنغاليين ان الطلاب السنغاليين الذين تخرجوا في المحاضر والجامعات والمعاهد الموريتانية أفصح لسانا، وأوضح بيانا من الذين تخرجوا في الأزهر الشريف والجامعات العربية( )!!
وكان السنغاليون ومازالوا في الظروف العادية، يعتقدون أن التجار الموريتانيين المتجولون في أفريقيا أو الذين يحملون فوق أكتافهم مخلاة مملوءة بالبضائع أو أولئك الذين يجلسون في الدكاكين يبيعون باالمفرد او الجملة أو يجلسون تحت الأشجار او في الأخصاص أو العرائش يعلمون القرآن الكريم أو العقيدة أو الفقه أو اللغة أو النحو أو الأدب لأبناء أفريقيا، كل أولئك إنما هم مصاحف ومعارف ومحاضر متجولة أو جالسة تنشر الأخلاق العالية والعلم والثقافة العربية الإسلامية الراقية والنقية الخالية من الغلو والتطرف بل تدعو إلى الوسطية والاعتدال، ذلك أن علماء موريتانيا: “قد لا نغالي إذا قلنا عنهم: إنهم لا يقلون أهمية عن أمثال جمال الدين الأفغاني..! ومحمد عبده ورشيد رضا وأبي ثناء الألوسي وعثمان بن سند واضرابهم( )..
ولقد بلغ إشعاع هؤلاء العلماء الثقافي والأدبي مختلف الأقطار العربية والأفريقية مثل المغرب والجزائر وليبيا وتونس ومصر والسودان والحجاز ونجد والعراق والأردن وفلسطين ولبنان واليمن والهند والأندلس وروسيا وغيرها، ومازالت مدرسة النجاح في الزبير في العراق قائمة، وهي المدرسة التي شيدها محمد أمين بن فال الخير الحسني الشنقيطي (ت1932م)!! وكانت ومازالت تخرج الأجيال في العراق والجزيرة العربية والشام!!
وشارك علماء موريتانيا في النهضة العربية والإسلامية الحديثة بإحياء التراث العربي الإسلامي، كما شهد بذلك المفكر المصري رفاعة الطهطاوي في كتابه: “تخليص الإبريز في تلخيص باريز” وتحدث بإعجاب شديد عن الشيخ سيدي المختار الكنتي الكبير (ت1226هـ) الذي قال بكروية الأرض في موسوعته الرائعة: “نزهة الراوي وبغية الحاوي”، وهو الذي فاق خليلا بن إسحاق في مختصره وابن مالك في ألفيته!!
وقد أسند الإمام محمد عبده تدريس اللغة في الأزهر الشريف إلى الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي (ت1904هـ)، لأنه: “كان آية من آيات الله في حفظ اللغة والشعر والأخبار والأمثال والأنساب( ). ووكل إليه: “إحياء الأمهات العربية الكبرى، فنشر المخصص وحرر القاموس وأملى الأراجيز”( )..!!
ومن المعروف أن الشيخ محمد حبيب الله بن ما يأبى الجكني انتقل من مكة المكرمة إلى مصر القاهرة، فتعرف عليه الناس وصاروا يقصدونه من جميع الطبقات العلماء وغير العلماء ثم انتخب مدرسا بالأزهر الشريف( ).. للحديث النبوي الشريف، حيث كان يملي كتابه الرائد “زاد المسلم في ما اتفق عليه البخاري ومسلم”، على أربعة من طلابه من حفظه كما يقال!!
إن قطر موريتانيا: “عرفه أهل المشرق والمغرب جميعا، دالا على ذلك الإقليم من أقاليم العالم الإسلامي والعربي، موحيا بتلك الصورة الرائعة المشرقة من صور النشاط العلمي والأدبي، كما تتمثل في علمائه الذين يتألق بهم تاريخ الفكر الإسلامي، وفي تلك الطائفة من العلماء والأدباء الذين كانوا وما يزالون يفدون على المشرق، ويبعثون في أرجائه ألوانا من ذلك النشاط، ولعل شيئا من أصدائه مازال يتردد في ذاكرة بعض الشيوخ في مصر”( )!! بل المشرق العربي كله!
وفي أفريقيا الغربية عامة والسنغال خاصة: كان للموريتانيين دور لابد أن يذكر في تعزيز “صمود” اللغة العربية، داخل السنغال، ذلك أن وضعهم على الضفة الثانية (لنهر صنهاجة)، أقام جسورا دائمة للمد الثقافي الذي كانت تفتقده البلاد. ولقد ظل هؤلاء الموريتانيون بمثابة الدعامة الأساسية التي قامت عليها مختلف “خنادق” الدفاع عن اللغة العربية أمام الغزوة الاستعمارية الشرسة”( ) الغربية!!
وهكذا كانت صورة الشناقطة (الموريتانيون) وما تزال في البلاد العربية و(الأجنبية) انهم الممثلون الأوفياء للثقافة العربية الإسلامية في نقائها وأصالتها، وأنهم سدنتها في قاصية ديار الإسلام، المرابطون في ثغورها: حفاظا عليها ونشرا لها وإشعاعا بها…( ) في مختلف البلاد الأفريقية والعربية وخاصة تلك المجاورة، لأن: “موريتانيا مؤهلة بحكم الجوار المتاخم لعدة بلدان إقليمية لأن تكون (معلمة) الأجيال الأفريقية الحديثة لثقافة القرآن المجيد”( )؛ ولذلك كان ومازال: “لهذا الاسم (موريتانيا) رونق وجاذبية في السمع العربي ولكأنه الكنز المكتشف… وفي الواقع: إنه ذلك الكنز الثمين بالنسبة للأمة العربية، لقد بدأ العرب يعرفون أن لهم في الركن الغربي الذي ينحرف شمالا من القارة الأفريقية حصنا منيعا، يروي لنا قصة البعث والانطلاق، حصنا وقف طويلا في سلامة عقيدته الإسلامية، وفصاحة لغته العربية…”( )!!
* * * * * *
لقد كتب كثير من الباحثين عن الإشعاع الثقافي الموريتاني في أفريقيا والخليج العربي وآسيا، فقد نشرت جريدة المدينة المنورة السعودية مقالا طويلا عن مدارس الفلاح الإسلامية في موريتانيا التي أسسها الحاج محمود باه الموريتاني (1908-1978م)، تقول الجريدة: “تعتبر الهيئة الفلاحية الإسلامية (في موريتانيا) من أهم المؤسسات التعليمية العاملة في غرب القارة الأفريقية، إذ يبلغ عدد المدارس الإسلامية التابعة لها (77) مدرسة ابتدائية ومتوسطة وثانوية منتشرة في ست دول أفريقية هي: موريتانيا (42) مدرسة، والسنغال (20) مدرسة، ومالي مدرستان، وغينيا ثلاث مدارس، والغابون خمس مدارسن والكاميرون أربع مدارس… ويصل عدد طلاب هذه المدارس إلى (6649) طالبا أسسوا مدارس كثيرة في بلدانهم!!
وقد أقامت الهيئة الفلاحية أيضا (89) مسجدا في تسع دول أفريقية هي: السنغال ومالي وغينيا ومنروفيا وليبيريا والكونغو كينشاسا والكاميرون وموريتانيا”( )!!
والحق ان “موريتانيا كغيرها من البلدان العربية المتشرة على مدى اليابسة والمياه، تتوفر على خصوصيات مكانية وزمانية تستحق اللمس والاستبصار، خاصة وأن هذا البلد العربي يجمع بين سماحة فقه المالكية الوسطي وتمازج الثقافتين: العربية والأفريقية، بالإضافة إلى الصلة الثقافية العميقة بالتراث العربي الإسلامي!! ومن اللافت للانتباه في ثقافة موريتانيا أنها ثقافة البوادي العالمة أو الأرياف المتسقة مع المعارف اللغوية والتراثية، ولا نجد ذلك في الكثير من البوادي العربية التي تتسم بالقطيعة المعرفية مع العلم والتراث. ولا أعرف سببا لهذه الحالة سوى أنها موصولة بالعلاقة التاريخية بالمخطوطات التي تواردت إلى عمق الصحراء( )!!
وإن الدور الذي لعبه العلماء الشناقطة (الموريتانيون) في المشرق والمغرب من إشعاع علمي، لا يقل عن ما قاموا به من نشر للغة العربية والدين الإسلامي في أفريقيا السوداء، حيث يمكن القول: إن أفريقيا الغربية يكاد يكون إسلامها قد تم على أيديهم، إضافة إلى أنهم هم من نشر اللغة العربية والعلوم الإسلامية فيها، فقد لعب العلماء والصلحاء والتجار البيضان الموريتانيون دورا لا مثيل له في نشر الإسلام والثقافة العربية في أفريقيا الغربية. وقد تفطن المبشرون الأوروبيون، لذلك، وعبروا عنه بالقول: إن الدور الذي تلعبه مسبحة الشيخ الشنقيطي في محله التجاري الصغير في نشر الإسلام والعربية لم تستطع أن تقوم جيوش المستعمر وموجات المبشرين والمعمرين الأوروبيين بمثله الديانة المسيحية والثقافة للغربية…”( )!!
والطريف أن الإشعاع الثقافي الموريتاني انبجس من بادية نائية أو منكب برزخي، ولكن،: “إن كانت البداوة علامة جهل في العالم كله عبر عصوره، فقد تخلفت هذه القاعدة الكلية عن شنقيط (موريتانيا)، فقد كانت صحاريها عامرة بالجامعات العظمى التي لم ير مثيلها في البلاد (العربية والأجنبية)، ففي كل “نزلة” من قبيلة معينة محضرة علمية هي حقا، جامعة كبرى، بل، والله، أرفع وأجل من الجامعات”( )، المعروفة في البلاد الأخرى، كما يقول المرابط محمد سالم ولد عدود (1348-11430هـ) وهكذا امتد الإشعاع الثقافي والروحي للمحضرة والحضرة إلى أصقاع كثيرة إلى جانب الإشعاع الأدبي الذي ألهم بعض الشعراء والناثرين في أفريقيا والوطن العربي، وذلك ما تقاربه الفقرة الثانية من هذه العجالة.
ثانيا: الإشعاع الأدبي الموريتاني في الوطن الأفريقي والعربي
إذا كان الإشعاع الثقافي الموريتاني قد امتد وتمعدد وتعدد في أفريقيا وآسيا والوطن العربي، فإن صنوه الإشعاع الأدبي قد رافقه في امتداده وقوته وتأثيره في السنغال( )، وغامبيا ومالي ونيجيريا والنيجر وغانا والمغرب( ) العربي ومصر وبلاد الحرمين والعراق والأردن وفلسطين وسوريا وتركيا وغيرها من البلاد الإسلامية والأجنبية.!
ويرى الأستاذ الدكتور عباس الجراري: “أن النهضة الشعرية التي عرفها الجنوب المغربي والقطر الموريطاني خلال القرن الماضي (19م) وبداية هذا القرن (20م) أسبق تاريخيا وأكثر توفيقا فنيا من نهضة الشعر في المشرق العربي على أيادي البارودي وشوقي، وذلك، لأن شعراءها استطاعوا بثقافتهم وظروفهم أن يطرقوا صميم القصيدة الجاهلية الذي واجه شعراء البعث المصريين بصعوبات جعلتهم لا يحاكون من الشعر القديم إلا السهل من الشعر العباسي..( )!!
على أن الأستاذ الوزير والسفير والناقد سيدي أحمد ولد الدي يذهب إلى أن الانبعاث الشعري العربي بدأ في موريتانيا وأن معارضات ابن الطلبة للشعر العربي القديم أوحت لأحمد شوقي بمعارضاته الرائعة ويقول: “لم يستهل القرن التاسع عشر(م) إلا، وفي موريتانيا نهضة شعرية ناضجة عمرها يناهز قرنا كاملا، ولذلك، فإنني أقول: عن إدراك كامل، عن ما يدعوه مؤرخو الأدب العربي بحركة الانبعاث الشعري قد بدأ في موريتانيا في بداية القرن السابع عشر(م) واستمر ينمو، ويتكامل، حتى بلغ أوجه في بداية القرن التاسع عشر (الميلادي)، فموريتانيا – إذن – قد سبقت الشرق في هذا المجال بما يناهز قرنين، ناهيك أن مولد البارودي، باعث الشعر من مرقده الطويل ولد سنة 1838 أي بعد وفاة ابن رازقة (ت1144هـ) بمائة وأربع سنين.
وقد أصاب الأستاذ/ طه الحاجري حين وصف الأدب الموريتاني بأنه: “حلقة مفقودة”، من تاريخ الأدب العربي (انظر مجلة العربي، عدد اكتوبر 1967م)، فالحقيقة: انه لو كان مقسمو عصور الأدب الكبرى عثروا على كنوز الشعر التي كانت تزخر بها الصحراء الموريتانية لغيروا رأيهم في تقسيمهم وتصورهم لحركة البعث الشعري، إذ أن شعراءها وخاصة شعراء القرن التاسع عشر(م) عادوا بالشعر إلى أصالة معانيه، وجزالة أساليبه وخلصوه من سقم الخيال وإسفاف التعبير، والإغراق في الألعاب اللفظية الزائفة.!!
ويعتبر محمد بن الطلبة المتوفى سنة 1272هـ/1855م، رائد شعراء هذا القرن، وقد عاد إلى منابع الشعر الأصلية مستلهما، فتنقاد إليه القوافي ذات المعاني القوية الضخمة والأسلوب الجزل الغريب، أحيانا، بدون تقعيد وسعي وراء الزخرف اللفظي. وقد كان الشعر الجاهلي مثل هذا الشاعر الأعلى، وقد كان شديد الوثوق به، وبمقدرته على مجاراة الأقدمين وبالتالي على النسج على منوال المثل الأعلى، فعارض شعراء الجاهلية بقصائد لا تقل عنها روعة، وكان يتمنى أن يتناشد الأشعار في ناد من أهل الجنة مع حميد بن ثور الهلالي، والشماخ بن ضرار الغطفاني، فيحكمون بينه وبينهما أيهم أشعر..؟
لقد عارض امحمد بن الطلبة بقصيدته التي مطلعها:
تطاول ليل النازح المتهيج
قصيدة الشماخ وأولها:
ألا ناديا أظعان ليلى بمنعرج
وبقصيدته التي مطلعها:
تأوبه طيف الخيال بمريما
قصيدة حميد بن ثور ومطلعها:
ألا هيما مما لقيت وهيما
وبقصيدته التي مطلعها:
صاح قف واستلح على صحن جال
قصيدة الأعشى الأكبر:
ما بكاء الكبير في الأطلال
        أما لضياء الصبح من متبلج؟

فقد هجن شوقا ليته لم يهيج

        فبات معنى مستجنا متيما

وويحا لمن لم يلق منهن ويحما

     سبخة النيش هل ترى من جمال؟

وسؤالي وما ترد سؤالي

ولست أستبعد أن تكون هذه المعارضات التي نشرت، لأول مرة، بالقاهرة سنة 1911م ضمن كتاب: “الوسيط في تراجم أدباء شنقيط لم تؤثر إلى حد ما في أمير الشعراء أحمد شوقي، فنظم على غرارها معارضاته المشهورة التي تعتبر من عيون الشعر العربي، ويعتبرها أحمد شوقي مثله الأعلى كقصيدته في المنفى بأسبانيا بين 1915 و1919 التي عارض فيها البحتري في قصيدته التي وصف فيها إيوان كسرى وابن زيدون في قصيدته: “أضحى التنائي بديلا من تدانينا” المشهورة، كما عارض أيضا بائية أبي تمام في مدح المعتصم إثر فتح عمورية وبردة البوصيري إلى غير ذلك من روائع الأدب العربي( )!!
* * * * * *
ويمتد الإشعاع الأدبي الموريتاني من مصر إلى الحجاز والعراق والأردن إلى سوريا، حيث وجدنا شاعر الشهباء هلال فخر و يعارض أبياتا للشاعر الموريتاني أمحمد بن أحمد يوره الأبهمي (ت1340هـ) بأبيات عارضها الشاعر الموريتاني الدكتور/ الشيخ ولد دومان، ذلك أنه: “بينما الدكتور المذكور آنفا، في احد مقاهي حلب (الشهباء) رفقة بعض كبار الشعراء السوريين، طلب منه بعضهم أن يلقي عليهم نماذج من الشعر الموريتاني، ولم يستحضر الدكتور (دومان) وقتها إلا أبيات ولي الله العلامة أمحمد ولد أحمد يوره – رحمه الله -.
على الربع بالمدروم أيه وحيه
وقفت به جذلان نفس كأنما
وقلت لخل طالما قد صحبته
أعني بصوب الدمع من بعد صونه
فما أنت خل المرء في حال رشده
وإن كان لا يدري جواب المؤيه
وقفت على ليلاه فيه وميه
وأفردته من بين فتيان حيه
ونشر سرير السر من بعد طيه
إذا أنت لست الخل في حال غيه

فوقف الجميع مبهورا من شدة جمال الأبيات، وكان من بين الحضور الشاعر المخضرم محمد هلال فخرو.. وفي صبيحة اليوم التالي اتصل شاعر الشهباء هلال فخرو على الدكتور (دومان)، ليقول له: إنه لم يذق طعم النوم من ليلة البارحة من شدة جمال الأبيات، وإنه عارضها بهذه الأبيات الرائعة:
تحاملت عصرا نحو أطراف حيه
لقد كانتا تربا لمن قد فقدته
فقال لي الصبيان ليلى توفيت
فما تبتغي؟ قلت السلامة والهدى
يكاد يرى الراؤون وقع جوابهم
يحق لمثلي أن يدلهه الهوى
فيا شاعر المدروم شعرك قاتلي
أسائل عن ليلاه فيه وميه
لعل لدى إحداهما علم حيه
ومية في قاع الرشاد وغيه
وسرت شجي الحلق من بعد ريه
فقد بان فوق الوجه آثار كيه
ويعرض عن أزياء ليست كزيه
فأيه فما أسمعت غير المؤيه

فعارض الدكتور (دومان) بدوره أبيات العلامة ولد أحمد يوره بهذه الأبيات الجميلة:
رويت حمى المدروم مثل أخيه
فخاطبني طيف لحسناء قائلا
فقلت لها من أنت هل تعرفينه
فقالت أنا من ابرؤ العشق والهوى
فقلت وجرح القلب بالأي نازفا
فقالت إذن فالكي قلت: لربما
فقالت لأنت الخل في الرشد والغوى
بدمعي فما أوفيته حق ريه
أتبكي على المدروم يا ابن أبيه
ولم تدري عن ليلاه شيئا وميه
واثني ذراع الشوق من بعد ليه
كجرح فتى المدروم في يوم غيه
فليس يرجى البرء إلا بكيه
فأيه على المدروم يا شيخ أيه

وأخذت هذه القصة مساحة كبيرة في الصحف السورية وقتها، وعارض الكثير من الشعراء أبيات العلامة ولد أحمد يوره( )!! المذكورة التي شاعت وذاعت بين الأنام في بلاد الشام، بعد شيوعها في الأندية الأدبية ووسائل الإعلام.
الخاتمة
لقد امتد الإشعاع الثقافي والأدبي الموريتاني شرقا وغربا، وقد قامت به المحضرة والحضرة وخريجوهما من العلماء والأدباء على أحسن ما يرام على مر الأيام، إلى جانب المعاهد والمدارس العليا والجامعات الموريتانية التي كانت ومازالت تفتح صدرها لطلاب أفريقيا والوطن العربي وآسيا وأوروبا، أحيانا حرصا على الحفاظ على استمرار هذا الإشعاع الموريتاني برورا من الخلف للسلف الذي كان علماؤه يعتزون بالعلم ويفخرون بنشره، فكانوا يرون أنهم لا يقلون شأنا عن الأئمة الأربعة كما يقول محمد يحي بن سليمه اليونسي الداودي الولاتي (ت1354هـ/1935م:
ولست دون مالك والشافعي وأحمد والحنفي والتابعي
ذلك إذن حديث مرتجل، وقدير معجل، أو حسوة منقار طائر من بحر صنهاجي زاخر ومحيط هادر، من الإشعاع الثقافي والروحي والأدبي الموريتاني في الوطن العربي والأفريقي.

د.احمد ولد حبيب الله

* رئيس وحدة المنارة للدراسات والبحوث
والتحقيق في جامعة انواكشوط العصرية
* الأمين العام السابق لاتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين
* رئيس قسم اللغة العربية وآدابها (سابقا)

مصادر العجالة ومراجعها
* أحمد بن الأمين الشنقيطي: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ط 4/ مكتبة الخانجي بالقاهرة ومؤسسة منير بموريتانيا، 1989؛
* احمد حسن الزيات: كيف عرفت الشنقيطي؟ مجلة الأزهر الشريف، المجلد الأول، صفر 1383هـ؛
* جاك شيراك (الرئيس الفرنسي السابق): خطابه أمام الرئيس الموريتاني السابق معاوية ولد سيدي أحمد الطائع، أثناء زيارته لموريتانيا عام 1997، نشر في مجلة الرباط الثقافي، العدد الأول 1997، وتصدرها وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي،
* حماه الله ولد السالم (دكتور): موريتانيا في الذاكرة العربية، منشورات مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2005؛
* الخليل النحوي: بلاد شنقيط، المنارة والرباط، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس 1987؛
* سيدي أحمد ولد الدي: الشعر العربي في موريتانيا فيما قبل القرن العشرين، نشرة الوحدة، إدارة الشؤون الثقافية الموريتانية، انواكشوط 1969؛
* السيد ولد اباه: مقال في جريدة الشعب الموريتانية، عدد يوم 23 فبراير 1991؛
* عباس الجراري (دكتور): الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياهن ط 1/ المغرب 1979؛
* عامر صمب (دكتور): الأدب العربي السنغالي، الجزائر 1978؛
* عبد الله السيد ولد الهادي: منتدى الشعب، جريدة الشعب الموريتانية، عدد يوم 12/04/1990؛
* عبد الودود ولد عبد الله (دكتور): الإسلام في غرب أفريقيا، مجلة حوليات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة انواكشوط، العدد الأول 1989؛
* عبد اللطيف خالد الدليسي: من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر في البصرة، محمد أمين الشنقيطي، الكتاب (20) وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، العراق 1981؛
* عبد العزيز بن عبد الله السنبل: أعلام المحظرة الموريتانية في المشرق والمغرب، جريدة الجزيرة السعودية، عدد يوم 05/02/2005؛
* عبد العزيز فيصل الراجحي: مشاركة في المؤتمر الدولي الأول حول المخطوطات الموريتانية، انواكشوط 28 و30 ابريل 2002م؛
* عمر عبد العزيز (دكتور): ثقافة المكان.. موريتانيا نموذجا، جريدة الخليج الإماراتية، عدد يوم 05/03/2005؛
* فهمي هويدي: استطلاع السنغال في قصيدة التغريب، مجلة العربي، عدد يناير 1982؛
* محمد يوسف مقلد: شعراء موريتانيا القدماء والمحدثون، بيروت 1962؛
* الحاج مصطفى آن: الإسلام والثقافة في الجمهورية السنغالية، دكار 1978؛
* محي الدين صابر (دكتور): جريدة الشعب الموريتانية يوم 05/02/1981؛
* نجيب صعب: مقال في مجلة الأدب المهجري، العدد 17 كولخ – السنغال.

 

شاهد أيضاً

د. محمد ولد أحظانا يؤرخ للموسيقى من خلال مصطلحها؛/المرابط ولد محمد لخديم

تُعدّ محاضرة الدكتور محمد ولد أحظانا رئيس نادي الفائزين بجائزة شنقيط حول الموسيقى الحسانية، التي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *