شجرة تُروى بمداد الوحي: تجلّيات البركة القرآنية في قلب تندوحه/ المرابط ولد محمد لخديم

في زيارتي الأولى لمحظرة تندوحة، صيف العام الماضي، استوقفتني شجرة خضراء تتوسط ساحتها، تنبض بالحياة في بيئة يغلب عليها الجفاف والسكينة. لم أكن أعلم حينها أن هذه الشجرة تخبئ في جذورها سرًّا من أسرار البركة المتصلة بكلام الله تعالى.

فمع مرور الأيام، أدركت أن هذه الشجرة تُسقى بماءٍ خاص: ماء غسيل الألواح التي كُتبت عليها آيات القرآن الكريم. اعتاد الطلاب أن يغسلوا ألواحهم تحت ظلها مباشرة، فتتسرب آثار ذلك الماء إلى التربة التي تحتضنها. وليس هذا سلوكًا عابرًا، بل تقليد راسخ في تراث المحاظر، يقوم على الإيمان ببركة هذا الماء، وخصوصًا إن كان من ماء الختمة الممزوج بالصمغ، الذي يُشرب أحيانًا طلبًا للشفاء والسكينة.

ماء القرآن… وشفاء الأبدان والقلوب

الاعتقاد ببركة ماء الألواح لا ينفصل عن المعاني العميقة التي يحملها القرآن الكريم في العقيدة الإسلامية، فقد قال تعالى:

“وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ” (سورة الإسراء، آية 82).

وقد فسّر ابن القيم رحمه الله هذه الآية بأن الشفاء المقصود شامل: شفاء من أمراض القلوب كالنفاق والجهل، ومن أمراض الأبدان عند التداوي به. وبيّن أن “من” في الآية ليست للتبعيض، بل للتبيين، أي أن القرآن كله شفاء.

كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقي نفسه بالمعوذات، كما روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:“كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات، وينفث، فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه، وأمسح عنه بيده، رجاء بركتها” (صحيح مسلم، 2192).

وفي رواية أخرى:

“دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ترقي عائشة، فقال: عالجيها بكتاب الله” (صحيح ابن حبان، 6098).

عبر هذا المعنى العميق، تتحول شجرة البلسم في تندوحة إلى أكثر من مجرد نبات. إنها شاهد حي على علاقة روحية بين كلام الله والطبيعة. تُروى بمداد الوحي، وتنمو في أرض تحفها التلاوات والذكر، فتغدو شجرة مباركة، رمزًا للعلم والشفاء.

وقد جربت بنفسي أكل أوراقها، وشرب شيء من الماء الذي نقعت فيه، فوجدت في ذلك سكينة خاصة، لا تشبه شيئًا آخر. وكأن هذه الشجرة اختارت أن تُثمر بركة، لا ثمرة، وتمنح الروح غذاءً، لا الجسد فقط.

البركة حيثما حلّ القرآن

إن شجرة البلسم تذكرنا بأن الأرض التي تحتضن العلم، وتُروى بكلام الله، تصبح أرضًا مباركة. تمامًا كما تثمر شجرة العلم هداية ونورًا، فإن هذه الشجرة تثمر شفاء ورحمة.

وفي زمن تتسارع فيه الماديات، تبقى مثل هذه الرموز شاهدًا على أن في البساطة سرًّا، وفي القرآن حياة، وفي المحظرة نورًا لا ينطفئ.

شاهد أيضاً

القرار الصعب: التوقف عن الكتابة/المرابط ولد محمد لخديم

بعض الناس يقضون أعمارهم في الكتابة والتأليف، يحملون القلم كأنما يحملون رسالة، ويسلكون الدرب الطويل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *