مرجحا تعريف الجمهور لأنه أقرب للعقل والفهم ومستبعدا تعريف النظام ومن تبعه لعدم اعتماده على العقل والمنطق.
ولم يكن البوطي هو الوحيد الذي انتقد هذا التعريف بل هناك الكثير من الباحثين ممن ردوا عليه حتى أن الجاحظ سخر منه.
يقول الإمام البقلانى في كتابه إعجاز القرآن:
” .. لو لم يكن القرآن معجزا على ما وضعناه من جهة نظمه الممتنع ، لكان مبهما حُطً من رتبة البلاغة فيه، ووضع من مقدار الفصاحة في نظمه كان أبلغ في الأعجوبة إذا صرفوا عن الإتيان بمثله، ومنعوا عن معارضته وعُدلت دواعيهم عنه، فكان يستغني عن إنزاله على النظم البديع وإخراجه في المعرض الفصيح العجيب.
على أنهم لو كانوا صرفوا على ما ادعاه ـ أي القائل بهذا التعريف ـ لم يكن من قبلهم من أهل الجاهلية عما كان يعدل به في الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وعجيب الرصف، لأنه لم يتحدوا إليه، ولم تلزمهم حجته. فلما لم يوجد في كلام من قبله مثله، علم أن ما أدعاه القائل بالصرفة ظاهر البطلان”).
ثم يقول بعد ذالك:
” ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة، أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع الصرفةـ لم يكن الكلام معجز، وإنما يكون المنع هو المعجز، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه، وليس هذا بأعجب مما لو قيل: إن الكل قادرون على الإتيان بمثله، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه بعد”(14)
يقول البوطي في هذا الصدد:
” إن أيسر ما يوضح فساد تفسير إعجاز القرآن بالصرفة، أن الواقع قد خالف ذالك، فلم يصرف الناس في الحقيقة عن الإقبال إلى تقليده ومجازاته. بل قام في التاريخ من حاول أن يعارض، وعارض وأتي بكلام زعم أنه قد حاكي به كلام الله عز وجل، ولكنه جاء مرذولا سمجا لا قيمة له”(15)
(من ذالك ما حدث من الشاعر العربي لبيد ابن ربيعة, الشهير ببلاغة منطقه وفصاحة لسانه، ووصالة شعره. فعندما سمع أن محمدا صلى الله عليه وسلم يتحدى الناس بكلامه قال بعض الأبيات ردا على ما سمع، وعلقها على باب الكعبة، وكان التعليق على باب الكعبة امتيازا لم تدركه إلا فئة قليلة من كبار شعراء العرب ، وحين رأى أحد المسلمين هذا أخذته العزة، فكتب بعض آيات القرآن، وعلقها إلى أبيات لبيد، ومر لبيد بباب الكعبة في اليوم التالي، ولم يكن قد أسلم بعد، فأذهلته الآيات القرآنية، حتى إنه صرخ من فوره قائلا:(والله ما هذا بقول بشر، وأنا من المسلمين).
وكان من نتيجة تأثر هذا الشاعر العربي العملاق ببلاغة القرآن أنه هجر الشعر، وقد قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوما: يا أباعقيل: أنشدني شيئا من شعرك، فقرأ سورة البقرة, وقال: ماكنت لأقول شعرا بعد أن علمني الله سورة البقرة وآل عمران.(16).
ومن ذالك أيضا ما وقع لاين المقفع كما جاء في كتاب المستشرق (ولاستن) وعلق عليه بقوله: “.. إن اعتداد محمد بالإعجاز الأدبي للقرآن لم يكن على غير أساس، بل يؤيده حادث وقع بعد قرن من قيام دعوة الإسلام” (17)
والحادث كما جاء على لسان المستشرق، هو أن جماعة من الملاحدة والزنادقة أزعجهم تأثير القرآن الكبير في عامة الناس، فقرروا مواجهة تحدي القرآن، واتصلوا لإتمام خطتهم بعبد الله بن المقفع 727م، وكان أديبا كبيرا. وكاتبا ذكيا. يعتد بكفاءته فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة..وأخبرهم أن هذا العمل سوف يستغرق منه سنة كاملة، واشترط عليهم أن يتكلفوا بكل ما يحتاج إليه خلال هذه المدة.
ولما مضى على الاتفاق نصف عام، عادوا إليه، وبهم تطلع إلى معرفة ما حققه أديبهم لمواجهة تحدي رسول الإسلام، وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصل، وجدوه جالسا والقلم في يده، وهو مستغرق في تفكير عميق، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه على الأرض، بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة، كتبها ثم مزقها….يتواصل….
شاهد أيضاً
لحظة تأمل!!/المرابط ولد محمد لخديم
في الانشغال بمطالب العيش، والاعتمار في غمرة الحياة ينسى الناس أن يفكروا، فيتساءلون: …