فكيف تمكن مع ذالك دراسة شيء من أدب هذه اللغة دون دراسة روحها التي تعيش بها وشريانها الذي يمتد فيها وينشأ من أجله.!؟
السبب الثالث: أن البلاغة والبيان وجمال الكلمة والتعبير ـ كل ذالك كان قبل عصر القرآن ـ أسماء لا تكاد تنحط على معنى واضح متفق عليه.
وإنما بلاغة كل جماعة أو قبيلة ما تستسيغه وتتذوقه، ولذالك كانت المنافسات البلاغية تقوم فيما بينهم وتشتد ثم تهدأ وتتبدد، دون أن تنتهي بهم إلى نتيجة، إذ لم يكن أمامهم مثل: أعلى يطمحون إليه ولا صراط واحد يجتمعون عليه، ولم يكن للبلاغة العربية معنى إلا هذا الذي يصدرون هم عنه من كلام في الشعر والنثر، وهم إنما يذهبون في ذالك طرائق قددا، ويتفرقون منه في أودية متباعدة يهيمون فيها.
وهيهات لو استمر الأمر على ذالك، أن توجد للبلاغة والبيان العربي حقيقة تدرك أو قواعد تدرس، أو قوالب أدبية تهذب العربية وتحافظ عليها.
فلما تنزل القرآن ، والتفتوا إليه فدهشوا لبيانه، سجدوا لبلاغته وسمو تعبيره، وأجمعوا على اختلاف أذواقهم ومسالكهم ولهجاتهم أن هذا هو البيان الذي لا يجارى ولا يرقى إليه النقد ـ كان ذالك إيذانا بميلاد مثلهم الأعلى ـ فيما ظلوا يختلفون فيه ويتفرقون عليه، وأصبحت بلاغة هذا الكتاب العزيز هي الوحدة القياسية التي تقاس إليها بلاغة كل نص وجمال كل تعبير، ثم تعاقبت الدراسات عليه من أرباب هذا الشأن وعلمائه، فاستخرجوا منه قواعد البلاغة ومقومات البيان ومسالك الإعجاز فكانت هذه العلوم البلاغية التي امتلأت بها المكتبة العربية، وأصبحت فنا مستقلا بذاته.
ولولا القرآن لما عرف هذا الفن ولا استقامت تلك الأصول والقواعد، ولتبدد المثل البلاغي الأعلى في أخيلة فصحاء العرب وشعرائهم.. فكيف يستقيم مع ذالك، أن يدرس هذا الفن وأصوله بمنأى عن مثله الأعلى ومصدره العظيم الأول ؟…..يتواصل.
شاهد أيضاً
دعوة للحاصلين على جائزة شنقيط يوم الثلاثاء 19 ربيع الثاني 1416 هجرية الموافق 22أكتوبر 2024م.
إلى إخوتي الكرام المبدعين والباحثين الذين نالوا جائزة شنقيط بفروعها الثلاثة، عن …