كتاب دين الفطرة:استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة انسانية.
يقع الكتاب في477 صفحة من الحجم المتوسط قدم له
كتاب دين الفطرة: استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة انسانية من تصدير: الدكتور محمد المختار ولد اباه رئيس جامعة شنقيط العصرية، والمفكر الإسلامي سمير الحفناوي عضو اتحاد الكتاب والمثقفين العرب بمصر، وتقديم الأستاذ الدكتور أحمدو ولد محمد محمود مدير مشروع دكتوراه الفيزياء بكلية العلوم والتقنيات جامعة انواكشوط العصرية، وتوطئة سماحة الشيخ الدكتور أمين العثماني عضو اللجنة التنفيذية بمجمع الفقه الإسلامي بنيودلهي الهند الطبعة الأولى مجمع الفقه الاسلامي بالهند 2010م الطبعة الثانية دار المعراج بيروت لبنان 2014م.
مفصلا حسب الآتي:
الفصل الأول؛
تمهيد:
تصويب حول بعض الأخطاء الشائعة:
الإنسان بفطرته طلعة لا يقتنع من الحياة بمظاهر أشكالها وألوانها كما تنقلها إليه حواسه أو كما ينفعل بها شعوره، بل يتناولها بعقله، وينفذ إليها ببصيرته ليعرف حقيقة كل شيء.. من أين جاء؟ وكيف صار؟ وإلا ما ينتهي؟ وهو في إشباع رغبته تلك لا يدخر وسعا من ذكاء أو جهاد حتى يبلغ من ذلك ما يطمئن إليه عقله وتستريح به نفسه(6).
ومن أهم الأسباب التي تدعوا الباحث إلى التوسع فيما كتب، الأوضاع الفكرية والاجتماعية الطارئة التي تفرض نفسها على المجتمع لأسباب مختلفة.
ولعل أهم الأسباب التي جعلتني أتوسع في ما كتبت سابقا المفاهيم الفكرية التي ظهرت في العقدين الأخيرين مثل: النظام العالمي الجديد، نهاية التاريخ، صدام الحضارات، الهويات، العولمة، حوار الحضارات، وأخيرا وليس آخر: الرسوم المسيئة، وتصريحات البابا بنديكت السادس عشر عن الإسلام.. .
وكان علي أن أرجع إلى ما كتب عن هذه المفاهيم كي أحظى بمقارنة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، وبعد تصفحي لمئات الصحف، والكتب، والمواقع الالكترونية المختصة وغير المختصة، فلم أجد متصلا بالموضوع إلا القليل رغم أن بعض ما قرأته كان لمفكرين كبار.إ إ
من ثم أمسكت عن الرد حتى يكون بين يدي الدليل حيث أن المعلومات والمفاهيم التي بحوزتي قد لا تكفي للرد على مواضيع أصبحت اليوم من أهم قضايا الساعة، على الصعيدين الفكري والجيوسياسي. وقد يكفي، كدليل على هذا لاهتمام الزائد، أن نشير إلى أن الأمم المتحدة اعتمدت عام 2001م كسنة( لحوار الحضارات)، الشيء الذي فسح المجال لعقد المزيد من الندوات واللقاءات لمناقشة هذا الموضوع، في جميع أرجاء الكرة الأرضية فقد ألقيت محاضرات ووضعت بحوث وألفت كتب في هذا الموضوع، لكن حدثت مغالطات في أكثر تلك الكتابات، التي يكتبها بعضهم عن قصد، ويسكت عنها البعض الآخر عن قصور …
ولعل ما يستحق الذكر هنا تلك الملاحظة الذكية التي ذكرها الدكتور محمد عايد الجابري في مقال له(7) بعنوان:(حوار الحضارات أية مصداقية؟)،بأن هذا لموضوع يرد تارة تحت عنوان (حوار الحضارات)، وأخرى باستعمال كلمة (ثقافة) بدل كلمة (حضارة) مشيرا أنه وبغض النظر عن الفرق الذي يمكن أن يقام بين الكلمتين، وهو فرق يختلق من لغة إلى أخرى، فإن للافت للانتباه حقا هو التركيز، في العالم الغربي كما في العالم الإسلامي، على موضوع معين، تحت عنوان (الإسلام وحوار الحضارات)، حتى غدا هذا الموضوع وكأنه وحده هو المقصود بهذا الحوار). مضيفا أنه من المفروض أن يكون مجرد واحد من الموضوعات التي يجب أن يشملها الحوار، متسائلا: لما الإسلام بالضبط؟ وما المقصود هنا (بالإسلام) ولماذا لم نسمع عن ندوة أو ندوات حول (المسيحية وحوار الحضارات) أو (اليهودية وحوار الحضارات). أو البوذية، أو الهندوسية أو غير هذه من الديانات ؟ مبينا أن هذا التخصيص الذي يصرف عبارة (حوار الحضارات) إلى دين واحد، يحمل على الشك في مدى الموضوعية.والتجرد اللذين تطرح بهما هذه المسألة ويريد الكاتب أن يقول: أن الكتاب الغربيين الذين يروجون لمقولة (صراع الحضارات) يضعون كمقابل («الغرب» (وحضارة الغرب). ليس (حضارة الإسلام) أو الحضارة الإسلامية)، بل الإسلام بدون تخصيص وهذا ما جعل هذا الطرح يضع (الغرب) وهو مصطلح جغرافي ومفهوم ثقافي حضاري في مقابل (الإسلام) الذي هو الدين.
والآن لنضع هذا الكلام جانبا ولنعرض لبعض الحقائق التاريخية لنعرف مدى مصداقية كل من القولين؛
يعترف الغرب بأن الحضارة اليونانية قد انتقلت إليهم عن طريق الحضارة العربية الإسلامية وأن معرفتهم بالحضارة الفارسية والهندية تدين بالكثير للعرب والمسلمين فكيف حصل هذا الانتقال ؟ وكيف صمدت الحضارة الإسلامية أمام تلك المنافسة الشرسة بين الثقافة الفارسية والرومانية ؟ رغم أنها كانت تدور داخلها، وما مدى مصداقية تجريد الغرب الآن للدين الإسلامي من حضارته؟!!
إن من يقرأ تاريخ الحضارات كثيرا ما يصادفه مصطلح الشعوبية وما هي إلا( نتاج تلاقح بين الحضارة الفارسية والعربية الإسلامية وقد شجع جو الحوار الثقافي الحضاري، الذي ساد فيها، المتخصصين الذين كانوا ذوي ميول يونانية إلى إبراز مآثر الحضارة اليونانية، فدخلوا في حوار تنافسي مع المتخصصين ذوي الميول الفارسية. وهكذا جرى داخل الحضارة العربية الإسلامية حوار تنافسي بين ثقافتين الفارسية واليونانية الشيء الذي حفز ذوي الثقافة العربية الإسلامية إلى الالتحاق بميدان المنافسة، فأبرزوا مآثر العرب ومناقب الإسلام مع الاعتراف للحضارات الأخرى بفضلها، الشيء الذي كرس النسبية في التفكير الحضاري في الفكر العربي الإسلامي، وخفف إلى حد كبير من التمركز حول الذات في هذا الفكر(8).
ولما كان أساس الحضارة الإسلامية فكريا، لذلك كانت حضارته مستقلة كاملة ذات دستور شامل مجرد، يختلف اختلافا جذريا عن مكونات الحضارة الغربية، مثلما اختلف جذريا مع الحضارات القديمة اليونانية والرومانية والهندية.
وإذا كان أساس الحضارة الإسلامية هو الفكر فإن الإسلام لا يعادي العلم الذي هو طريق الحضارة.
ولا يعادي القوة السياسية والعسكرية لأنها أداة ومظهر من مظاهر الحضارة. والإسلام بهذا الشمول يضع المنهج الملائم والسليم، والمقومات الأساسية لقيام حضارة إسلامية قائمة على الفكر الذي هو جماع كل مظاهر الحضارات، حتى يكون أساسها قويا متينا لذلك فإن حضارة الإسلام باقية متجددة، لا يصيبها الشلل أو تعتريها الشيخوخة(9).
ولأن الفكر أساس حضارة الإسلام لذا فإن الثقافة الإسلامية هي إحدى مستلزمات هذا الفكر وعليه يكون الحق مع ملاحظة الدكتور الجابري ويكون الطرح الجديد على الشكل التالي : (الحضارة الغربية) مقابل (الحضارة الإسلامية). ولعل أكثر الأخطاء التي وردت في بحوث من كتب عن هذه المواضيع هو عدم انتباههم للمنطلق الخاطئ الذي لم يتقيد بالملاحظة السالفة الذكر..
كذالك من يتناولون الدين على انه (مشكلة موضوعية) « Objective problème فهم يجمعون في سلة واحدة كل ما أطلق عليه اسم “دين” في أي مرحلة من التاريخ ثم يتأملون في ضوء هذا المحصول حقيقة الدين!!.
إن موقفهم ينحرف من أول مرحلة(70)، فيبدوا لهم الدين جراء هذا الموقف الفاسد ـ عملا اجتماعيا، لا كشفا لحقيقة، ومن المعلوم أن لكل ما يكشف عن حقيقة من الحقائق مثلا أعلى، ولا بد عند البحث عن هذه الحقائق أن ندرس مظاهرها وتاريخها في ضوء مثله الأعلى. أما الأمور التي تأتي بها أعمال اجتماعية فليس لها مثلا أعلى، وبقاؤها رهن بحاجة المجتمع إليها.
والدين يختلف عن ذلك كل الاختلاف، فليس من الممكن البحث عن حقائقه، كما يبحث عن تطورات فنون العمارة والنسيج والحياكة والسيارات، لان الدين علم على حقيقة يقبلها المجتمع أو يرفضها أو يقبلها في شكل ناقص(71) ويبقى الدين في جميع هذه الأحوال حقيقة واحدة في ذاتها، وإنما يختلف في أشكاله المقبولة، ولهذا لا يمكن أن نفهم حقائق الدين بمجرد فهرسة مماثلة لجميع الأشكال الموجودة باسم (الدين).
وبهذا يحكم الغرب قبضتهم على الفكر العربي والإسلامي …
إن الدين إذا جرد عن المدنية- وقد جرد كثيرا- كان دينا ولا حضارة , كان دينا ولا دينا ولا اجتماع, كان دينا ولا حياة.
وكل دين يجرد من الحضارة دين صائر إلى الانقراض, ومصيره الزوال السريع.
وكل دين يرضى أهله بهذا الموقف الضعيف المتخاذل, فيرضون من الدين بالعقيدة ولا يلحون على مدنية خاصة عي نتاج هذا الدين, ويقتبسون أو يستوردون مدنية أخرى هي وليدة بيئة أخرى, وسليلة ديانة أخرى, ونتيجة أحداث وعوامل مرت بها أمة خاصة, أو بلد خاص, فإنهم يفقدون مع الأيام ومع تيار الزمان شخصيتهم, ويفقد الدين الذي دانو به السيطرة على نفوسهم وعقولهم, ويكونون صورة صادقة أو نسخة مطبوعة لأمة التى تطفلوا على مائدتها, واقتبسوا منها الحضارة ونمط الحياة , وهذا مانعيشه اليوم واقعا في مدنيتنا المستعارة وأساليب حياتنا..
وبانتهاجنا لهذا المنهج صار لزاما علينا سبر أغوار هذا الفكر والتعرف عليه.أكثر
يظهر ذالك من خلال مقارنة بين دلالة الإنسان في النسق الحضاري الغربي مع استحضار أصوله الفلسفية القديمة ومقارنتها بالنسق الحضاري الإسلامي.
وفي سياق النموذجين السرديين المتمثلين في قصتي (روبنسون كروزو) لدانيال ديفو, وجي ابن يقظان ( لابن الطفيل) حيث يغوص العقل الغربي في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة , وعقل يتشوف إلى ما وراء وينزع نحو تأمله.
هذه المقارنة أتى بها المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه “مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” للحضارة ووصفها كنسق كلي جامع يحدد عقليتها ونمط رؤيتها للوجود وفي سياق المقاربة بين قصتي روبنسون كروزو وحي ابن يقظان يستنتج التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، حيث ينتهي إلى تقرير اختلاف جوهري في الرؤية إلى الكائن الإنساني ووظيفته في الوجود، إذ تنزع الرؤية الفلسفية للحضارة الإسلامية نحو نظرة كلية كيفية، وتنزع الرؤية الغربية نحو نظرة تحليلية كمية.
و هذه الرؤية الكمية لاتبدو فقط في هذا النتاج السردي الروائي ولا في النمط الثقافي الحضاري الغربي الراهن، بل حتى في الخلفية الثقافية الهلينية فقد مدرسة فرانكفورت مليا عند أسطورة أو ديسيوس في ملحمة الأوديسة كاشفة عن مركزية هذه الرؤية المادية التي سيصطلح عليها هوركايم وأدرولو بالأدائية.
وتمظهرها أيضا في علم الفيزياء مع جاليليو في رؤيته التحليلية الرياضية للكون.
وفلسفيا مع ديكارت في تمييزه بين الفكر والامتداد، وتأسيسه للعقل بوصفه قوة للسيطرة على الطبيعة واستغلالها. ومجتمعيا في النمط الليبرالي، كنمط يقتصد تأسيس واقع يعامل الذات الإنسانية بوصفها جسدا.
كما حرص المنظرين للفكرة الرأسمالية في الخطاب ألحدائي الرأسمالي على اختزال الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية ـ حتى تلك التي تخرج عن نطاق العلاقة الاقتصادية ـ إلى رغبات وأشواق جسدية لتؤول إلى محض رغبة اقتصادية !.
وهذا ما نراه أيضا عند السيسيولوجى الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق لبروتستانتية» حيث يؤول شخصية روبنسون كروزو رائيا فيها تجسيدا لنموذج «الإنسان الاقتصادي» ومحدد لنمط الحضارة الرأسمالية.
مما سبق نجد أن هذا النموذج ليس ملمحا من ملامح النمط المجتمعي الصناعي فقط، بل هو محدد من محددات نمط التفكير الغربي ككل.
لكن الإنسان بفطرته ـ ليس مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه فقط.
. وهكذا حيثما اتجهنا وجدنا من الشواهد ما يكفي للدلالة على أن عدم تبديل المقاربة الأدائية المادية لنمط رؤيتها لماهية الإنسان إنما هو ناتج عن عدم انتباهها لمنطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية.
وإذا كنا اليوم نعيش في عصر أخص صفاته أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء وأنه ليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون دائما نافعة كالأشياء فإنه لزاما علينا أن نتوخى الحظر في هذه الأفكار، خاصة وأن مصدرها هو الغرب الذي ينظر إلى الإنسان كحيوان اقتصادي محكوم بمعايير الحساب النفعي، أي بمنطلقه الخاطئ المحكوم بالرؤية المادية الكمية كما تقدم ذكره(40) وهو المنطلق الذي لا نكاد نخرج من الإشارة إليه في بحثنا هذا إلا لنعود إليه وكأننا في دائرة مغلقة فهل إلى الخروج من سبيل؟! يقول (نور ثروب):
«كيف ستؤثر ـ يريد نظرية الكم في مناطق العالم الأخرى ـ هذه الطريقة الجديدة في التفكير التي أنشأها الغرب الحديث ؟!!
لقد عالج (هايزنيرغ) هذه المسألة في بدء حديثه وفي ختامه فالطريقة الجديدة في التفكير ستؤدي كما بقول المؤلف، وسواء شئنا أم أبينا، في تغير أو تدمير جزئي في عاداتنا التقليدية وفي قيمنا الأخلاقية(41).
فكثير من قادة الشعوب في العالم غير الغربي، وكذلك غالبية مستشاريهم الغربيين يرون أن مسألة إدخال الآلات العلمية وطرق التفكير الحديثة إلى آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا لا تعدو منح هذه المناطق استقلالها السياسي، ومن ثم تزويدها بالأموال والآليات اللازمة.
لكن هذا الافتراض السهل يهمل عدة أمور:
ـ أولها أن أجهزة العلم الحديث مستمدة من نظرياته، وتتطلب لإتقان صنعها أو لحسن استعمالها فهما جيدا لتلك النظريات.
ـ وثانيها أن هذه النظريات تعتمد بدورها على عقائد فلسفية إذا فهمت على حقيقتها تولد عقلية شخصية وجماعية وشكوكا تختلف كلها عما ألفته الأسرة والطائفة والقبيلة من عقلية وقيم سائدة لدى شعوب آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، وقد تتعارض معها في بعض الأمور.
وبموجز القول: لا يستطيع الإنسان أن يستورد آلات الفيزياء الحديثة دون أن يستورد عاجلا أو آجلا عقليتها الفلسفية وهذه العقلية(42) باستحواذها على تفكير الشباب العلمي تتغلب على الولاء العائلي والقبلي القديم. وإذا لم ينتج عن هذا بالضرورة توتر عاطفي وبأس اجتماعي، فمن المهم أن تتنبه لما يطرأ عليها وهذا يعني أن علينا أن ننظر إلى تجربتها على أساس أنها اجتماع عقليتين فلسفيتين مختلفتين، تلك التي تحمل الثقافة التقليدية، وتلك التي انبتت الفيزياء الحديثة ومن هنا تبرز لكل فرد أهمية فهم فلسفة الفيزياء الجديدة..
لكن المرء قد سأل : ألست الفيزياء مستقلة تماما عن الفلسفة ؟! ألم تعزز الفيزياء الحديثة فعاليتها إلا بهجر الفلسفة ؟!
إن (هايزنبرع) يجيب بكل وضوح عن كلا السؤالين بالنفي … فلماذا ؟
لقد ترك (نيوتن) انطباعا بأن فيزياء خالية من الفرضيات التي لا تستلزمها المعطيات التجريبية. وهذا يتضح من إدعائه بأنه لم يضع أية فرضية وإنما استنبط مفاهيمه الأساسية وقوانينه مما وجده في تجاربه فإذا صح رأيه هذا في العلاقة بين الأرصاد الفيزيائية التجريبية وبين نظريته، فإن نظريته لن تحتاج أبدا إلى تعديل، ولا يمكن أن تنطوي على أية نتائج لا تؤكدها التجربة، أي أن اتفاق الوقائع معها يجعلها نهائية وخارج نطاق الشك»(43).
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نقبل هذه النظريات كما هي عليه في كشوف أصحابها؟ أليس من حقنا أن نحاول التعرف عليها على ضوء بناء هذا الوجود ؟!!
سنحاول سنحاول أن نجيب على هذا السؤال مستعينين بنظرية جديدة للعلامة محمد عنبر
إن الكلمة ـ أي كلمة ـ يقوم فيها ذلك القانون الوحيد الشامل الذي تجري أشياء الوجود وفاقا له ألا وهو قيام الزوجين النقيضين في الآخر من كل شيء من أشياء هذا الوجود..
لذا فيكون الأصل هو “الشيء في نقيضه” وهو بسط المتزاوج الذي يحكم الفكر والمادة في آن واحد. والشيء في نقيضه هو الذي يعرب عن كل متحرك في هذا الوجود، فكل حركة: هي هذا الشيء في نقيضه بحكم أنها تتألف من نهاية الخطوة السابقة وبداية الخطوة للاحقة كما تتألف كل من در و رد حيث تتألف (در) مثلا من الدال التي هي بدايتها من جهة ونهاية رد القائمة في ذاتها من جهة أخرى.
كما تتألف (رد) من الراء التي بدايتها من جهة ونهاية (در) القائمة في ذاتها من جهة أخرى ضرورة وبداهة ولئن قالت الفيزياء الحديثة (عالمنا عالم أزواج) فإن الاعتماد على مثل هذا القول إنما هو اعتماد لأنه موافق ومطابق للشيء في نقيضه الذي يتمثل في قيام كل من الزوجين في الآخر من كل شيء والذي يتمثل في كل لبنة من لبنات هذا الوجود كما يتمثل في كل صيغة صدرت فطرة وسليقة وطبعا على مثل ما هي عليه الحال في در و رد
إن الرد من المنع وان الدر من العطاء وقد يكون الامتناع والعطاء في لغة أخرى بحرفين آخرين أو أكثر غير الدال والراء، ولكن الشيء الذي يتحتم أن يكون نظام التعاقب الواحد، فيجب أن يكون الحرف المشابه للدال هو الأول في صيغة العطاء، وهو الآخر في صيغة المنع ولا يمكن أن يكون غير ذلك، لأن طبيعة تركيب الصيغة تقتضي ذلك, وهي واحدة في اتجاهها وإن قامت حروف مقام حروف في الصيغ: فليس مشروطا في اللغات الأولى والألفاظ الأولى وحدة الحروف بل المشروط وحدة الاتجاه وما الحروف إلا الثوب الذي ترتديه الوجهة التي تبقى واحدة وان تنوعت أثوابها. وحين تدرس الأصول الأولى في اللغات على الإمام الواحد تتجه إلى التلاقي تحت لوائه عن علم ودراية إضافة إلى التقائها فيه حسا وغريزة.
ولما كانت هذه النظرية جديدة لأول مرة في تاريخ العلوم وتصلح أن تكون معلما لبناء الوجود كما هي معلما للعلم والفلسفة فقد نقلنا منها مباحث( 48) وإن كانت قليلة مقارنة بحجم الكتب الشارحة لهذه النظرية. متيقنين أنها تضفي أنوارا على الثقافة العقدية الدينية باعتبارها منظومة مترابطة وشاملة.
ومن المصطلحات التي وقفت حجرة عثرة في البحث: النظر على وصف الشيء بأنه مادة، لا مجال عند بعضهم للشك فيه وقل مثل ذلك في قولهم بأنه عقل. والجميع إلى يوم الناس هذا لا يزالون يواصلون عما هي عليه المادة في ذاتها، وعما هو عليه العقل في ذاته؛ فكيف يمكن أن يكون وصفهم لأي منها قاعدة وأساسا ينبني عليه؟!
لقد وفق محمد عنبر بين العقل والمادة بإطلاقه لفظ (الشيء) الذي يشمل كل موجود إلى أن تصل الحضارة من أمرها إلى ما يكون أساسا للبناء عليه.
فالصوت: كلمة، ونعني بها تلك التي صدرت فطرة وسليقة من أي صائت في أي مكان من أي زمان. وفي أي لغة وأن تعاملنا معها كوسيلة من وسائل المعرفة وليس على أنها مجرد وسيلة للتفاهم بين الناس..
لقد خرجت اللغات من أصولها إلى هيئات وصور أخرى، وليس في الوسع أن تتعرف على تلك الأصول إلا بإصطناع منطق الجدل، في الثنائي كثيرا وفي الثلاثي قليلا: فحركة الجدل في الثنائيات أوضح وأجلى منها في الثلاثيات، فالثنائي هو الأصل في العربية، والخلية الأولى موطن التشابه الأول بين الأحياء.
أمالثلاثي فكأنه يؤرخ وجه الإنسانية فيها، فالألفاظ الثلاثية تعبر عن السمة الإنسانية السوية التي جاءت في أحسن تقويم، والثلاثي قائم على وجهة الثنائي الأصل، لم يخرج عليها، وقد اعتبره أهلها أصلا لكل ما يقبل التصريف فيها قال العلامة ابن مالك:
وليس أدنى من ثلاثي يرى قابل تصريف سوى ما غَيرا
ولأنه قائم على فيزيائية وصفة حروف الصيغة حيث تخرج الحركة في (در) من الدال الشديدة التي تقوم بمثابة الشد أمام تمادي الراء المتمادي بالراء المتكررة المتمادية التي تأخذ بيد الصبغة إلى الانطلاق لأن الأمور بخواتمها ومع أن الأمور بخواتمها فإن صيغة «در» هذه تعلن أن الحركة فيها خرجت من حاجز الدال بالنسبة للراء لتمادي بالراء المتمادية ولهذا جاء الدر للخروج من الاحتباس إلى التمادي كخروج اللبن من احتباسه في ضرع البقرة مثلا بالدال إلى تماديه منطلقا بالراء المتكررة.
أي إن فيزيائية هذين الحرفين هي التي جعلت هذه الصيغة تؤرخ للاحتباس الذي تؤرخ للانطلاق الذي تؤرخ به الراء بحكم تماديها وانطلاقها.
ولئن وجدنا كلا من الزائد والناقص منفصلا عن الآخر فإن الشيء لا يزيد في حيز إلا إذا نقص من آخر والعكس بالعكس ضرورة وبداهة.
وكذلك فإنه لا وجود للسالب إلا بالموجب والعكس بالعكس ولا وجود للتجمع إلا بالتفرق ولا بالفعل إلا برد الفعل ضرورة وبداهة، ولئن جاءت الحرية بأزواج منفصلة فإن كلا من الزوجين في بنية الاتصال مع زوجه المناقض له الذي ينسجم ويتآلف معه، ولذا وجدنا
هروقليط يقول:
إن الصراع بين الأضداد ضرب من التوافق على عكس ما ذهب إليه أرسطو.
والتضاد هنا هو التناقض لو لا أنهم يستعملون كلا منهما مكان الآخر تجوزا.
ولئن استعمل الرياضيون الأعداد مطلقة فما ذلك إلا من قبل التجوز أيضا وقد سبب استعمالهم للقيمة المطلقة أن وجدوا أنفسهم يواجهون حلبن للمعادلة ولو نظرت إلى المعادلة 4 = 4 لما وجدت أن بالإمكان جمع طرفيها من طرف واحد إلا إذا غيرت من إشارة الطرف المنقول لتناقض إشارة الطرف المنقول إليه إذ يستحيل اجتماع الطرفين في طرف واحد إلا إذا كانا متناقضين.
وعليه تصبح المعادلة هي :
4 ـ 4 = 0. فماذا يعنى ذلك ؟ والجواب: انه يعني أن العدد أو أي شيء من هذا الوجود لا ينفصل من نقيضه القائم في ذاته إلا تجوزا.
وهذه المعادلة ليست في الواقع 4 ـ 4 = 0 وإنما هي أن الأربعة زائدة ناقضة وفي أن واحد أي أنها 4.
ولما كانت في حقيقتها كذلك فإن هذه الحقيقة هي التي جعلتنا نواجه في المعادلة الواحدة حلين أحدهما يرجع إلى الجانب الناقص والآخر يرجع إلى الجانب الزائد لأن كل شيء في واقعه قائم على التناقض فهو زائد ناقص، وموجب سالب في آن واحد
فالدر من در في صورة اللبن إذا (در) فهو يدر عن حيز متماديا لينجزر عن حيز منجزر، فهو متماد منجزر في كل حركة من حركاته وفي كل خطوة من خطواته ضرورة وبداهة. ولئن حار الواقفون على هذه الحلول المزدوجة في المعادلات فإن حيرتهم ناشئة عن عدم وقوفهم على ما هو عليه الشيء ـ أي شيء ـ في ذاته.
إن الكلمة صوت نجسد فيه أفكارنا، ولما كان جسد الشيء على مثال ما نجسده فيه، فان أجساد أفكارنا الصوتية إنما هي على مثال هذه الأفكار التي نجسدها فيها.
وإذا تبين لنا أن هناك ضابطا أو ضوابط تحكم أصواتنا التي هي أجساد أفكارنا فإن هذا الضابط أو هذه الضوابط تحكم الأفكار التي جسدت فيها أيضا.
إذا ضربت الكرة الأرض ردت الأرض على ضرب الكرة بمثله في الشدة والضعف، ولا فرق بين فعل الكرة وردة فعل الأرض إلا في الاتجاه. ففعل الكرة يتجه الى أسفل ورد فعل الأرض إلى أعلى. وفعل الكرة ورد فعل الأرض متصاحبان زمانا ومكانا, وكل منهما على مثال الآخر إلا في الاتجاه الذي يناقضه فيه.
ولو نظرت إلى الصوت ـ لفظ ـ الرد من (ردً) الذي يتجه إلى معنى الارتجاع في صورة البقرة ترد لبنها وتحبسه فى ضرعه وتمنعه من الانطلاق, والدًر المناقض لمقلوبه القائم في ذاته في صورة قفا له, وهو صوت ـ لفظ ـ الدر من (دَ َر) الذي يتجه إلى معنى المضي في صورة البقرة تطلق لبنها دارة به, وعلى هذا فالدر والرد من(د ر) و(رد) زوجان و(رد) هي (د ر) لولا أن كل منهما تناقض الأخرى وتعاكسها في الاتجاه وكل منهما مصاحبة للأخرى، وقائمة في ذاتها في صورة نقيض لها.
وعلى هذا فان علينا إذا أردنا أن نتعرف كلا من(در) و(رد) أن نتعرف كلا منهما من خلال نقيضها الذي يقوم في ذاتها في صورة مقلوب لها
ولما كان كل من الفعل ورد الفعل المصاحب له ضرورة يعرف الآخر ويفسره ويوضحه ويجليه فإن الصوت ـ اللفظ ـ يعرف برد فعله القائم في ذاته في صورة مقلوب له قائم في ذاته يفسره ويوضحه ويجليه، وعلى هذا فإن أي شيء نريد أن نتعرفه علينا أن نعرفه من خلال نقيضه القائم في ذاته.
بمعنى أن ليس في ذات (در) إلا زوجها المناقض لها (رد),وليس في ذات(رد) الا زوجها المناقض لها(در). أي ليس في ذات كل منهما إلا الأخرى ضرورة، وعلى هذا فالشيء القائم في ذات (در) ليس إلا مقلوبها (رد)، والشيء القائم في ذات (رد) ليس إلا مقلوبها (در) ولقد انقضى عمر البشرية إلى يوم الناس هذا دون أن تتنبه إلى ما هو الشيء في ذاته، أو ما هو الشيء بحد ذاته؟.
ولعل من أفضل السبل لمعرفة تاريخ الحرف ما يؤرخ به الحرف نفسه (فسُر كل شيء كامن فيه).
وما نعرفه من الألفاظ أنها هذا البيان الذي في لساننا وبين أيدينا. والبحث عنها في غيرها نقل للتجربة من واقعها الحي إلى الفكر البحت وفصل للعملي عن النظري.
ونأتي الأمور من أبوابها حين نبحث عن الشيء في الشيء ذاته.
وما تحمله الألفاظ في أذهاننا من معان بعينها، مقيدة بها، لا تخرج عنها، فهي سجينة فيها, فإذا أردنا أن نتعرف صلتها بالصور الأخرى التي في المعجمات، أو التي استعملها غيرنا في كل زمان ومكان، حالت هذه المعاني القائمة في أذهاننا، دون إمكان التعرف عليها, وتقطعت بنا سبل الوصول إليها. وإذا وقفت في المعجمات على الأصل في معنى اللفظ فسرعان ما تهمله، وتعود الصور المألوفة للألفاظ إلى حجبه من جديد، والحلول مكانه، والإنسان كما يقول ابن خلدون: (ابن عاداته ومألوفه)، فنعود إلى التجربة من جديد..
أن أي عدد أو رمز إنما هو ناقص زائد في وقت واحد.
فمثلا: إذا نظرت إلى المعادلة [9=9] وأردت أن تقيمها على مثل قيام كل من (در) و (رد) في الأخرى، فإنك تجد أن السبب في قيام كل من (در) و (رد) في الأخرى في صورة مقلوب، هو أن كل منهما نقيض للأخرى مبني ومعنى.
فإذا مضيت بالمعادلة [9=9] إلى المعادلة [9-9]=0 تبين لك أن السبب في اجتماع التسعتين معا في طرف واحد يرجع إلى قيام التناقض بينهما.
غير أن المعادلة [9-9=0 ] لم تكن قد وصلت, بعد إلى مثل الحال التي عليها كل من (رد) أو (در) لمقلوبها ونقيضها القائم في ذاته، وعلى هذا فلا بد من كتابة (±9) أو (±9). وعلي هذا تصبح التسعة ناقصة زائدة، أو زائدة ناقصة في آن واحد كما أسلفنا.
((هذا إذا أردنا له أن يمثل الشيء في الواقع. فقلمي هذا الذي أكتب به يخرج من حيز ينقص منه إلى حيز يزيد فيه، وإذا أردت أن أصف حركته هذه فلا بد من وصفها بأنها حركة ناقصة زائدة في وقت واحد، لأنها نقصت من حيز وزادت في آخر.
وهكذا.. ينطبق هذا بإصطناع منطق الجدل، في الثنائي كثيرا وفي الثلاثي قليلا: فحركة الجدل في الثنائيات أوضح وأجلى منها في الثلاثيات، فالثنائي هو الأصل في العربية، والخلية الأولى موطن التشابه الأول بين الأحياء.
راجين أن نكون قد أعطيناك للقارئ الكريم تصورا عن هذه النظرية الجديدة في فلسفة اللغة أو رياضيات اللغة للعلامة محمد عنبر. وإن كنا تناولنا منها فقط ما يتعلق بموضوع بحثنا.
وأملنا كبير في أن يأتي من الباحثين المختصين ممن هم أقدر منا على العطاء لتلخيص هذه النظرية الجدلية الجديدة، وتقديمها للقارئ بصورة مبسطة، خاصة وأنها تقع في ثلاث كتب من الحجم الكبير وبلغ شرحها وفهارسها ما يقارب 1433 صفحة.
وهذا ما يريده صاحب هذا الكشف الجديد حيث أنه جاء بآراء جديدة شخصية، وبالطبع فهي مطروحة للمناقشة والنقد، بحثا عن الحقيقة، ضالة الفكر المنشودة المفقودة…. ولكل مجتهد نصيب.
هذا ومن خلال ما تقدم يتضح لنا أن الموجود في هذا الوجود هو قانون التزاوج المتناقض المتمثل في قيام ” الشيء في نقيضه”. حيث لا يوجد في وجودنا المخلوق، إلا هذا القانون الواحد الذي تتفرع عنه جميع القوانين الأخرى. وقد اتخذنا كشف محمد عنبر عكازا نهتدي به لما يتمتع يه من منهجية، وموضوعية، في موضوع كبحثنا، ندرت حوله الكتابات الفكرية الموضوعية الجادة. والرجل لا يعتمد على فكره فقط بل نراه يبنى نظريته على نظريات عربية قديمة، وأجنبية معاصرة، في الفلسفة والعلم معا. منذ أيام أبى على الفارسي، وابن جني، والجرجاني، والفارابي… وابن خلدون..ثم..كانت، وهيكل….إلى سيبنوزا ..إلى سارتر…ثم اينشتاين.. وبور.. وهايزنبرغ…
لا لشيء غير توظيف جانب من نظرياتهم في كشفه الجديد. ونراه يعرض الاجتهادات هؤلاء الأعلام الذين وقفوا حياتهم على الفلسفة والعلم اعترافا منه، لما وقفوا أنفسهم عليه، وكأن ينتقل بدرجات محسوبة ومحسوسة للوصول إلى الحقيقة ، وهو في عرضه هذا لعلوم أولائك الأعلام يكرر دائما أن الأساس الذي قام عليه بناء اللغة ،هو الأساس الذي قام عليه بناء الوجود.
واعتمادنا على نظرية محمد عنبر نابع من أننا سئمنا التبعية والتقليد..وأنه قد آن الأوان إلى ( إعمال الفكر، وامتلاك فضيلة الصبر والجلد ، وتقلب النظر، والكف عن (التكديس الذري) للمعلومات دون الوقوف على النواميس العليا التي تنظمها في مسارات محددة، وتوزعها على مفاهيم واضحة تخرجنا من التيه، وتعصمنا من العيش في الأوهام وردود الأفعال… الأسلوب القديم الذي لم يعد قادرا علي مواكبة الكثافة النظرية للفكر الحديث….
وهذا ما حدا بنا إلى عرض هذه النظرية وتبسيطها وترجمتها إلى لغة إنسانية لتسهل قراءتها والاستفادة منها كما يريد صاحبها…
وفي الفصل الثاني
الحداثة وقلب معنى الإنسان.
البحث في واقع العقل بدل البحث في واقع التفكير
التفكير السليم
محمد عنبر ونظرية جديدة في فبزيائبة اللغة
خروج شعوب العالم من عاداتها وتقاليدها وفلسفتها
إلى فلسفة الفيزياء الحديثة.
الإنسان وبيئته
التعقيب على الكتاب والقرآن قراءة معاصرة لمحمد شحرور
الفصل الثالث:
تعاملنا مع نظرية محمد عنبر الجديدة.
الشيء في ذاته من خلال.الفعل ورد الفعل أو (د ر) و(ر د).
الإنسان والمعتقد والدين.
أصل الأصولية…
الطرق الفكرية المعتمدة في الكتاب
الطريقة العقلية
الطريقة العلمية
خطأ البشرية بجعل الطريقة العلمية أساسا للتفكير
والأدلة على ذالك.
أي من الديانات والمعتقدات يخضع لطريقة العقلية؟
الفصل الرابع:
اللغة الإنسانية
عدم تمتع اللغات الأخرى بمواصفات اللغة الإنسانية .
تحمل اللغة وتحمل المتكلم بها
معادلة بور وتفسيرها للحلول المزدوجة
الحقيقية والوهمية.
معنى العقل.
إنسانية الإنسان
عجز الإنسان أمام مشاعره..
ضيق اللغة أمام المعاني والمشاعر
صعوبة الوصول إلى المعنى الأصل
الفصل الخامس:
مقارنة بين الألفاظ والأعداد.
علاقة التصنيع بالحرية.
معنى الضغط على أزار المصعد.
أصول الإشارات والألفاظ الرياضية..
الرياضيات وطبيعة سير الحركة في الوجود وفي الصيغ العربية.
الطريقة إلى وضع كلمة جديدة على أصول الفطرة.
تعريف العدد عند السلف
الوسط الرياضي أو العددي عند السلف
الفيزياء الحديثة والتزاوج
أشياء الوجود صدرت في صورة معادلات محلولة.
طريقة الحل قائمة ماثلة قي قيام الزوج في زوجه من كل شيء
الفصل السادس:
الفلسفة الحديثة تنبذ المنطق الصوري وتستبقى الأسس التي قام علبها.
الميكانيكية والديناميكية..
سيجموند فرويد و التحليل النفسي
ورد النظرية عليه.
تعريف جديد لحقيقة الحب.
ولع الإنسان في الكشف عن كل جديد.
ريادة نظرية محمد عنبر والأسس والمراجع التي اعتمدها.
الفصل السابع:
الفرق بين الوعي والخبرة…
اللغة العربية وصمودها
هل اللغة العربية اليوم هي لغة الأم
وما هي اللغة الثالثة المعتمدة اليوم
سبب انتشار الجامعات والمعاهد العامية في الغرب
الغزو الداخلي…
إمكانية عودة اللغة سيرتها الأولى.
اللغة العربية وعلاقتها بالإعلام
اللغة الفصحى المعاصرة
كيف نوظف هذا لانتشار الواسع للغة
كيف نستفيد من لغة الإعلام في عصر العولمة.
سر محافظة اللغة العربية
على قوتها واستمرارها….
علاقة اللغة بالدين..
علاقة اللغة العربية بالدين الإسلامي….
عالمية اللغة من عالمية الإسلام…
اللغة العربية لغة القرآن
أكذوبة ربط اللغة بالجنس أو القومية
الفصل الثامن:
القرآن: تعريفه والخصائص
التي تبرهن على أنه من عند لله…..
القرآن فوق الطاقة البشرية…
التحدي الأول:الموت.
التحدي الثاني:الروح.
الحياة والروح.
الروح من وجهة نظر علمية…
الروح في الفكر البشرى قديمه وحديثه:
مفهوم الروح عند الفلاسفة..
مفهوم الروح عند المصريين القدماء
مفهوم الروح في البوذية.
مفهوم الروح في الهندوسية
مفهوم الروح في اليهودية…
مفهوم الروح في المسيحية.
مفهوم الروح في الإسلام.
الفصل التاسع:
رؤية اليهود والنصارى والإسلام لله..
أي من هذه الديانات يخضع للبراهين
والطرق الفكرية المعتمدة في هذا الكتاب.
الإنسان بعد نفخ الروح.
ما دليل الإعجاز القرآني الجديد.
حل العقدة الكبرى
ماذا بعد عجز العقل البشرى.
الدين المشترك
الذي نادي به كل الأنبياء وأتباعهم…
هل الفطرة بحاجة إلى الدين.
دين الفطرة.
الفهرست…
الهوامش..
خاتمة
إن أي باحث تخلص من الأخطاء السابقة وعرف واقع العقل قدرته الإنتاجية وطريقته التفكيرية سيوقن بوجود تشريع سماوي منزل من عند الله سبحانه وتعالى, وبعرف أن هذا العقل هو الذي اهتدى إليه, وانه لا يمكنه أن يستقل بمعرفة الله ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحبه في تطوافه إلى تلك الغاية قلب, يتلقى عنه كل مدركاته فيحيلها عواطف وأحاسيس تشيع في النفس روعة وجمالا.
و أن الإنسان عقل وعاطفة، فليس هو عاطفة فحسب ولا عقل فقط، بل هو الإثنان معا. والعاطفة هي المحرك، والعقل هو الموجه.. وهذا ما يقتضيه منهج الفطرة.
وقد سلكنا في هذا جميع الطرق الفكرية المؤدية إلى معرفة هذه الفطرة المركوزة في النفس البشرية والغريب أن هذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان، بما عنده من غرائز وحاجات عضوية، دافعة إلى البحث والتنقيب عن الوسائل التي تروي وتشبع حاجاته وغرائزه، في فقه طبيعته أو عليه أن يفقهها..
و العقلاء من الناس لايجدون صعوبة في رؤية مركوزية الفطرة من خلال أحوال الناس وسلوكهم، فالمريض الذي أضناه المرض، ويئس من الحصول على الشفاء، إلى من يلجأ ؟ والفقير الذي لايجد مايكفيه، ممن يطلب حاجته؟ والمكروب الذي ضاقت به الدنيا على سعتها،ممن يسأل الفرج؟
هؤلاء وغيرهم ممن انقطعت بهم السبل إذا نظرت إليهم وقد تعلقت أبصارهم بالسماء ولسان حالهم يخبرك بما يختلج في صدورهم من صدق التعلق بالمحبوب كمشاعر داخلية عميقة تنزع بهم إلى اللجوء إلى من هو أقوى منهم..
وتتبعنا هذه المشاعر الداخلية بالملاحظة الدقيقة ووجدنا أن أقواها الإحساس بوجود الله تعالى والرغبة في الخضوع له وكأنها أمر جبلي فطر عليه.
وتوصلنا إلى هذه الحقيقة بالبرهان واستطعنا أن نحل هذه العقدة الكبرى، لأنه بحلها تحل جميع العقد عند الإنسان. وأن مسالة حل هذه العقدة الكبرى فيها ناحيتان:
احدهما: الناحية العقلية، أي المتعلقة بالعقل، في نفس التفكير الذي يجري..
والثانية: متعلقة بالطاقة الحيوية التي في الإنسان، أي بما يتطلب الإشباع، فالتفكير يجب أن يتوصل إلى إشباع الطاقة الحيوية بالفكر. وإشباع الطاقة بالفكر يجب أن يأتي عن طريق التفكير بنقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ.
وأنه اذا جاء الإشباع بالتخيلات والفروض، أو بتعبير ما هو واقع محسوس، فإن الطمأنينة لا تحصل، والحل لا يوجد.
وإذا جاء التفكير بما لا يوجد الإشباع أي بما لا يتفق مع الفطرة، فإنه يكون مجرد فروض او مجرد إحساس، فلا يوصل إلى حل تطمئن إليه النفس، ويوجد الإشباع. فحتى يكون الحل حلا صحيحا للعقدة الكبرى، يجب أن يكون نتيجة تفكير حسب الطريقة العقلية وان يشبع الطاقة الحيوية وان يكون جازما بحيث لا يترك مجالا لعودة التساؤلات: من أنا؟ وما هذا الوجود؟ والى أين المصير؟.
وبهذا يوجد الحل الصحيح. ويوجد الاطمئنان الدائم لهذا الحل ومن هنا كان من أهم أنواع التفكير: التفكير بالكون والإنسان والحياة، أي التفكير بحل العقدة الكبرى حلا يتجاوب مع الفطرة الذي يحصل به إشباع الطاقة الحيوية، ويكون جازما بحيلولته دون رجوع التساؤلات السابقة..
وقد تحل العقدة الكبرى حلا خاطئا إذا ترك للطاقة الحيوية وحدها أن تقرر.
فالإنسان بشعوره بالعجز فانه يحاول إشباع ما يتطلبه الإشباع ويملأ أجوبة التساؤلات المصيرية. ولكن هذا الطريق غير مأمون العواقب، وغير موصل إلى تركيز، فغريزته قد توجد في دماغه تخيلات أو فروضا لا تمت إلى الحقيقة بصلة.
وهي وإن أشبعت الطاقة الحيوية ولكنها قد تشبعها إشباعا شاذا كعبادة الأصنام، أو تشبعها إشباعا خاطئا كتقديس الأولياء.
ولذلك لا يصح أن يترك للطاقة الحيوية، أن تحل العقدة الكبرى أو تجيب على التساؤلات؟ بل لا بد أن يجري التفكير في الإنسان والكون والحياة للإجابة على التساؤلات السابقة… إلا أن هذه الإجابة يجب أن تتجاوب مع الفطرة، حتى يتم بها إشباع الطاقة الحيوية وأن تكون بشكل جازم لا يتطرق إليه شك.
واكتشفنا أن هذه الفطرة شيء نحس به في داخلنا ولكننا لا نفهم كنهه، وأننا لا نستطيع أن نصل إلى هذه الحقيقة التي تبدأ معنا عندما نولد وتبدأ عملها مبكرا قبل الحواس.
وانه من بين جميع الديانات والمصطلحات الفلسفية والعقدية نجد دين واحد هو الذي عرفنا على هذه الحقيقة وأنها مرتبطة به ارتباطا عضويا متدافعة إليه تدافع الماء إلى منحدره. بدليل قوله تعالى﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ في قوله تعالى” تذكروا” دلالة على أن ما تذكروه مركوز في فطرتهم، وان غفلتهم أمر عارض سببه إغواء الشيطان. وإذا تأملت بداية الآية “إن الذين اتقوا”علمت ما الذي تذكروه؟ وما هو مركوز في فطرتهم. إنه خالقهم، ومحبوبهم وكل عمل يقربهم إليه.
وإهتداء الإنسان إلى هذه الحقيقة أي إلى فطرته ليس كسبا رخيصا بل كبير، وغنم عظيم فيه يعيش المرء في سلام ووئام مع نفسه، ومع فطرة الوجود الكبير من حوله.
والحقيقة أن في فطرة الإنسان فراغا لا يملأه علم ولا ثقافة ولا فلسفة، وإنما يملأه الإيمان بالله الواحد الأحد جل شأنه.
وستظل الفطرة الإنسانية تحس بالتوتر والجوع والظمأ حتى تجد الله, وتؤمن به وتتوجه إليه, فتحس بالهداية بعد الحيرة والاستقرار بعد التخبط, والاطمئنان بعد القلق.
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم: [ في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله, وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله, وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته, وفيه قلق لا يسكنه إلا الإجماع عليه والفرار إليه] (469).
ولقد مثل القرءان الكريم فطرة الخلق السليمة في معرفة الله وثبوت وحدانيته وربوبيته وانه لا اله إلا هو بعد أن غرس ذلك في نفوسهم وفطرهم عليها بقوله سبحانه وتعالى ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا… أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ (470).وكيف يغفل المرء عن الله وفيه هذه الغريزة المتطلعة إلى لله المتشوقة إليه.
ففي الوقت الذي أضفى القرآن الكريم على حقيقة الذات الإلهية من الصفات أضاف إليها من النعوت ما يميزها عن سائر الموجودات، ويجعلها في متناول الإدراكات الإنسانية، وفي دائرة ما يعرف بالعقل والوجدان قال تعالى﴿ فأعلم أنه لا اله إلا لله﴾(471)، بل يجعلها أجلى ما يعرف وأسمى واجل ما يعلم لذوي الفطر السليمة والعقول المستقيمة، لذا يرفض القرآن الكريم فكرة المشبه والمجسمة كلية.
فالإله لا حاجة له أن يلبس حاجة البشر، كما انه منزه عن صفات البشر واخصها التجسد ويشير القرءان الكريم في سورة الإخلاص إلى جانب التنزيه بقوله تعالى ﴿قل هو الله أحد﴾ فبهذه الأحدية تقتضي التفرد والتنزيه عن المشابهة والمماثلة للحوادث، كما يشير إلى جانب الكمال والتأثير بقوله ﴿الله الصمد﴾ وهو المقصود للناس جميعا، الصمدية تقتضي اتصافه عز وجل بكل صفات التأثير التي هي صفات الكمال، ولم يكن أحد مكافئا ومماثلا له في شيء من صفاته كما يشير إليه قوله تعالى ﴿ولم يكن له كفؤا أحد﴾(472) فالله في عقيدة الإسلام ليس إلا الموجود الأسمى المتفرد بكل صفات الكمال الحائز لكل معاني العزة والجلال، المهيمن على كل ما سواه ومن عداه، إليه تستند وجودات الأشياء ومنه تنبثق ما فيها من قوة وحياة وعنه وبإرادته تصدر كل ما فيها من حركات وكل ما يلحقها من تغيرات، وهو القاهر للخلق جميعا بما له من منطلق الأمر والنهي(473) قال تعالى ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” (474).
وقوله جل شأنه ﴿ قل هو الله أحد * الله الصمد* لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد” (475).
على ضوء ما أسلفنا في هذه المحاولة المتواضعة من أدلة وبراهين يمكننا أن نفهم قوله تعالى: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون﴾ (476).
ويبقى الإنسان ذلك المجهول والكون ذلك المبهم الذين يحتاجان معا إلى متتالية هندسية وليست حسابية فقط لاكتناه أسرارهما.
الإنسان روح وجسد والدين اعتقاد وعقل.
ومحاولة الفصل التعسفي بينهما عملية لا تتوافق مع منهج نظام الإدراك والبصيرة الشامل. كما أن حل ما يسمى القضية الإشكالية بينهما ليس موضعها المخابر التحليلية الرقمية فحسب، وليس اللجوء إلى نظرية غير مسوغة لفهم الظواهر الكونية والعقلية، والاجتماعية، ويبقى السؤال الأزلي المشروع قائم، هل إن قرار السعي إلى الحقيقة الربانية هو من اختصاص إنسان واحد أم من اختصاص الجميع من خاصة الخاصة وحتى من عامة العامة؟.
لقد أحسست في مواضيع خطيرة من هذا الكتاب أن أعيش بفكري وقلبي وجسدي ـ جميعا ـ (عشت بعقل الباطني وعقلي الواعي، استعدت ذكرياتي القديمة، منها ما هو من صميم التاريخ، ومنها ما هو من صميم العقيدة، وكانت ذكريات تختلط بواقعي، فتبدوا حقائق حينا، ورموزا حينا، وكان الشعور بها يغمرني ويملأ جوانب نفسي كنت دائما في كامل وعي.أخذتني الرهبة والخشوع عندما كنت وحدي، وكنت في هذه المرة الواحدة مع الناس ومع نفسي في وقت واحد.
..وجدتني أردد بلا وعي ما يقولونه. ووجدتني في الوقت نفسه وحدي وان كنت في صحبتهم.. كنت شخصية واعية بلا كلام وشخصية متكلمة بلا وعي(477).
كانت الشخصية المتكلمة بلا وعي تردد كلام الآخر… وكانت الشخصية الواعية بلا كلام •ترتل بهدوء وصمت: قوله سبحانه: ﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا﴾ (478).﴿هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾ (479).﴿يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون﴾ (480). ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (481).
•وتناجي ربها في صدق وصمت: اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض، ولك الحمد أنت رب السماوات والأرض ومن فيهن، أنت الحق ووعدك الحق والجنة حق والنار حق والنبيون حق، والساعة حق.
اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت الهي لا إله إلا أنت.
وقبل أن أنهى هذه الابتهالات الربانية التي كانت تصادف يوم الوقوف بعرفة يوم الحج الأكبر, وبينما كنت أنظر عبر شاشة التلفزيون إلى تلك الجموع المليونية التي أتت من كل فج عميق إلى البلد الأمين حيث نزول الوحي على نبي الرحمة. أومض بصيرتي شعاع من عظمة الخالق الأعلى جعلني أتوجه بعقلي وعاطفتي إلى تلك الأرض المقدسة بيت لله الحرام أول بيت وضع للناس, علنا نجد ما يواسينا في هذه العقيدة الإسلامية التي أصبحت بفعل من يحسبون عليها, مجرد شعارات ترفع, أو مبادئ تعلن, أو مقالات يجتهد أصحابها في تدبيج مقدماتها وسياقها, أو طقوس تمارس في أوقات معينة..
وكم كانت السعادة تغمرنا عندما أصبحنا نشاهد بأم أعيننا أن هذا البلد الأمين مازال إلى يوم الناس هذا (مركزا للهداية والإرشاد, والإشعاع الروحي والغذاء العاطفي, تقام حوله المناسك, وتغذى به العاطفة, وتشعل به مجامر القلوب, وتشحن به (بطاريتها) الفارغة, ويتلقى منه الرسالة الدينية, ويجتمع حوله العالم الإسلامي كل عام, يؤدى خراجه من الطاعة, وضريبته من الحب والانقياد, ويثبت تمسكه بهذا الحبل المتين, ولجوئه إلى هذا الركن الركين, ويطوف حوله أعظم العلماء والعقلاء, والزعماء والعظماء, والملوك والأمراء, والأغنياء والفقراء, في وله وهيام, وفقه وحكمة, يثبتون أنهم مجتمعون على تفرق, متوحدون على تعدد, متركزون على انتشار, أغنياء على الفقر , أقوياء على الضعف, ينتشرون في العالم ويسعون في أرزاقهم ومصالحهم, وينتسبون إلى أمم وسلالات, ويختلفون في الحضارات والثقافات, ويلتقون على نقطة واحدة وحول نقطة واحدة, مظهرها (الإحرام) في لغة الدين والفقه وفى مصطلح الحج والعمرة, حاسرة رؤوسها مابين رئيس ومرؤوس, وصغير وكبير, وغني وفقير, وتهتف كلها في لغة واحدة « لبيك للهم لبيك. لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد والنعمة لك والملك, لا شريك لك…» وكأن الوجود قد تحول إلى مظاهرات لا هتاف لها إلا الذكر والشكر والتمجيد والتحميد. فحياتهم كلها طواف وسعى, ونسك وعبادة, وإيمان وعقيدة, ومقاماتهم كلها منى وعرفات, وأسفار ووقفات, والسعي خير ممثل لموقف المسلم في هذا العالم, فهو يجمع بين العقل والعاطفة, وبين الحس والعقيدة, انه يستعين بالعقل, ويستخدمه في مصالح حياته, ولكنه ينقاد أحيانا للعاطفة, التي هي أعمق من العقل, انه يعيش في عالم قد حف بالشهوات, ومليء بالزخارف والمظاهر, لكنه يمر بينها كالساعي بين الصفا والمروة, لا يعرج على شيء, ولا يتقيد بشيء أنما غايته وهمه ما يستقبله, يعتبر حياته أشواطا محدودة , يقطعها إطاعة لربه , واقتداء بأم نبيه صلى لله عليه وسلم, لا يمنعه إيمانه عن البحث والسعي, ولا يمنعه سعيه عن التوكل على لله والثقة به, حركة قيمتها وروحها ووسائلها « الحب» و« الانقياد»).
وهذه هي الخصائص المترابطة التي تعرف المسلم, بدليل ما أسلفنا من أن القرآن والسنة المطهرة يحرصان على ربط قضايا التوحيد بمقتضياتها من الأعمال الحبانية والتعبدية, وأن كل من الإيمان والعمل شيئان متلازمان لا يصلح أحدهما إلا بالآخر, وبمفهوميهما الواسعين يشملان الجوانب الروحية والجسدية, والفكرية والعقلية, والقولية والفعلية.
لهذا كان التكامل من أبرز خصائص العقيدة الإسلامية وما لم تتحقق هذه الخاصية فان شخصية المسلم تبقى ناقصة بل منفصلة..
(ولهذا يعتبر الحج عرضة سنوية للملة، يرجع إليها الفضل في نقائها وأصالتها، وفى بقاء هذا الدين، بعيدا عن التحريف والغموض والالتباس، وفى بقاء هذه الأمة، بعيدة عن الانقطاع عن الأصل، والمصدر والأساس، محفوظة من المؤامرات والمغالطات التي وقعت أمم كثيرة فريستها في الزمن الماضي، وعن طريق هذه المؤسسة العظيمة الحكيمة، تبقى هذه الأمة العظيمة الخالدة محتفظة بطبيعتها الإبراهيمية الولوع الحنون، العطوف الرؤوف، الثائرة القوية الحنفية السمحة، وتتوارثها جيلا بعد جيل، فكأنها القلب الحي القوي الفياض الذي يوزع الدم إلى عروق الجسم وشرايينه، وبها تستعرض هذه الأمة مجموعها في صعيد واحد، فينفى بذالك علماؤها وزعماؤها تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وخرافة المخرفين، ويردونها إلى الأصل الإبراهيمي الحنيفى، وإلى الشرعة المحمدية(الصافية)، وبها تستطيع هذه الأمة أن تحافظ على وحدتها الدينية والعقلية والثقافية، وتعتصم على أن تؤثر فيها الإقليمية والمحلية تأثيرا يفقدها الوحدة الحنفية الإبراهيمية، والصيغة الإسلامية المحمدية، كما كان شأن الديانات السابقة الكثيرة، والأمم الدينية العديدة(482) وإلى الدين الخالص دين الفطرة، المركوز في نفس الإنسان الذي يبحث عن شيء يراه بعينه، فيوجه إليه أشواقه، ويقضى به حنينه، ويشبع به رغبته الملحة، في التعظيم والدنو. لأن اليقين والاطمئنان لطف سماوي ينبغي أن يغمر بنوره ليس بعض النفوس المؤمنة المنتخبة والمصطفاة، بل كل الأجساد والأرواح القلقة التواقة إلى الراحة الأرضية والنعيم الرباني. والحمد لله الذي هدانا إلى هذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله وصلى الله وسلم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين.
المؤلف: المرابط ولد محمد لخديم