من نافلة القول أن نقول بأن تراث الأمة من أغلى ما لديها، وبأنه لا مناص من الاهتمام به وجعل الحفاظ عليه من أوكد ما يجب أن تتجه إليه التنمية لمن أراد أن يبقى في ركب الأمم الطامحة إلى الازدهار والديمومة في عصور لا بقاء فيها إلا لمن فهم أهمية التراث والحفاظ عليه.
لقد وضعت هذه المسلمة نصب عيني وجعلتها هدفا أسمى منذ قررت الاشتغال بالتراث الموريتاني. وعلى الرغم من أن تخصصي لم يكن مطلقا يمت إلى هذا التراث بصلة إلا أنني ومنذ أن ربطتني به وشائج الرغبة في البحث وحب الإطلاع، أقبلت عليه إقبال المتعطش النهم، ونهلت من معينه القراح، وأنتج ذلك عملا طويلا تجلى في صنعة فهارسه والاشتغال به درسا وتحقيقا،_ ( ينظر كتابنا معجم أسماء المؤلفات الموريتانية المخطوطة) _ وأحببت أن أفصل في ذلك تفصيلا وأن أثبت هنا ما قمت به في تلك السنوات الطوال بالاشتراك مع زملاء لي اشتركت معهم، وأنتجنا ما سأقوم بتفصيله وتوثيقه في السطور التالية، والله الموفق.
_ مرحلة شنقيط ووادان
كانت أول رحلة لي في هذا المضمار هي ما قمت به مع عدد من الباحثين في المعهد الموريتاني للبحث العلمي قصد الشروع في فهرسة مخطوطات مدينة شنقيط ووادان. وكان التمويل آن ذاك على حساب دار الفرقان وهي مؤسسة وزير النفط السابق أحمد زكي ياماني. وقد قمنا في تلك الرحلة بفهرسة عدة مكتبات من المدينتين، وخاصة المكتبات التي كانت لها حيوية وحضور في تلك الفترة من الزمان، والتي لم يكن أهل المكتبات فيها يثمنون تراثهم، فكان أن وجدنا مكتبات متناثرة في بطون الصناديق، وفي المنازل المتهالكة، وألفينا المخطوطات قد أنهكتها الأرضة، وغمرتها المياه التي تسيل بها الدور نتيجة الأمطار، فلا مغيث من راع، ولا مهتما بتراث، فانتشلنا كثيرا من تلك الكتب، وساعدنا أهلها بما نملك من معارف تحث القيمين على المكتبات بالحفاظ عليها، ونبهنا على أهمية ذلك التراث مما لاقى آذانا صاغية جعلت من الملاك يزدادون حبا لتراثهم ويقدرونه حق تقديره.
لقد عدنا بفهارس المكتبات التي استطعنا أن نصل إليها، ثم قمنا في مرحلة لاحقة بفحص كل الاستمارات التي كتبناها، وصححنا كل ما يحتاج إلى تصحيح، وخرجنا أسماء الكتب، وأسماء المؤلفين، وعرضنا كل ذلك على مصادره الخاصة، ثم قمنا بكتابة مقدمة للفهرس وأرسلناه إلى الهيئة الممولة التي قامت بطبعه تحت عنوان” فهارس مخطوطات شنقيط ووادان”. وأقول هنا إن بعض المكتبات التي قمنا بفهرستها لم تظهر في الفهرس، ولعل قلة الكتب التي تمت فهرستها كانت باعثا على عدم ظهورها.
إن تدخل الهيئة غير بعض الأمور منها:
– تدخلها في عدم إظهار بعض أسماء المكتبات كما بينت سابقا.
– نسبة الفهرس إلى من سموه في مصطلحهم “بالجامع”، وهو زميلنا أحمد بن محمد يحيى، ثم المراجع وهو ريبشتوك الخبير الألماني العامل بالمؤسسة.
– وضع أسماء الباحثين المشاركين في نهاية التقديم للفهرس.
– حذف جزء كبير من الاستمارة والمتمثل في بداية المخطوط ونهايته مما جعل العمل ناقصا في نظري.
لقد ظهر العمل مطبوعا منذ فترة طويلة، إلا أنه يصعب تداوله لأن ما يطبع منه لا يتجاوز الباحثين وهذا ما يحجبه عن كثير من المهتمين والمشتغلين بالتراث الموريتاني، فتتكرر الأعمال دونما استفادة ممن له السبق في الميدان حتى تصحح الأخطاء ويتلافى منها الكثير لكي تستخرج نسخة مصححة وسليمة من العيوب.
_ مرحلة تيشيت
لم تنقض تلك الرحلة حتى بدأنا في الاستعداد لرحلة مشابهة ولكن هذه المرة سنتجه إلى منطقة بعيدة ونائية، طرقها وعرة ومخيفة لا يكاد سالكها ينجو من التيه إلا إذا اصطحب معه دليلا ماهرا، خبيرا بضروب المنطقة لا تغفل عيناه، فيه من الصبر والأناة والدربة والممارسة ما إن لم يخطأه لضعنا تيها ولما عدنا إلى منطلقنا.
كل ذلك كان نصب أعيننا، وكان منطلقنا في فصل الشتاء حيث يمتاز الجو بالبرد القارص والحرارة المنخفضة. وانطلقنا في رحلتنا وسلكنا طريقا وعرة من مدينة انواكشوط إلى مدينة تجكجه ولم تكن ساعتها قد عبدت، وكان مبيتنا قبلها في مدينة انبيكة. ولما استيقظنا أكملنا فطورنا واحتسينا كؤوسا من الشاي كما هو عادة الموريتانيين في كل صباح. بدأنا في امتطاء سيارتنا ذات الدفع الرباعي، إلا أنها أشعرتنا بأن البرد قد نال منها وأن لا استعجال في الحركة إلا بعد تريث وتمهل حتى تتسرب الحرارة إلى جسمها بعد أن نال البرد منها ما نال. وقد أصابتنا دهشة بأن سيارتنا لن تكمل الطريق، ويا لها من طريق غير أن الأمور سارت على الطريق الميمون، وانطلقت بنا في وجهتها المعلومة قاصدة مدينة تجكجه حيث وصلناها في أول النهار، ثم نزلنا عند بعض الأهالي، وبتنا ليلتنا في راحة واطمئنان بال.
كان اليوم التالي حافلا بالأعمال حيث بدأنا في البحث عن الدليل المناسب وقد ظفرنا به، كان دليلا خبيرا ماهرا، ثم بدأنا في قضاء بعض الحوائج الأخرى من تجهيز للسيارة، وعقد اتصالات بأهل المكتبات القاطنين بمدينة تجكجه.
في الصباح الباكر انطلقنا وكان أول يوم من أيام رمضان، فسار الركب يقطع الفيافي والوهاد إلى أن وصلنا إلى قرية تدعى” لخشب”، وبعدها تبدلت الطريق وبدأنا نسبح في أمواج من الرمال لا تكاد ترحم، ويا ويل من توقفت سيارته أو تعطلت فلا مغيث، ولا راحم إلا الله، كان السائق شديد الانتباه إلى الطريق التي طلب منه الدليل سلوكها، وما إن حاد عنها قليلا حتى ابتلعته الرمال وكان الدهشة والخوف، إلا أن الله سلم، فالسيارة ما زالت على حالها ولم تنطفئ، فكان أن أمر الدليلُ السائقَ بالتأخر قليلا، فانطلقت على عادتها وخرجت منتصرة، فعادت النفوس إلى راحتها وبدأ الأمل يدب فيها بعدما أصابها من الهلع والخوف. قطعنا بعد ذلك كل الطريق ووصلنا بعد صلاة الظهر إلى مدينة تيشيت، وكانت مدينة جميلة ذات حجارة سوداء متميزة، تقبع فوق مرتفع عال، منارة مسجدها تعلو كل المدينة تتراآ لك من بعيد، تفوح منها رائحة التاريخ، وهي تشهد بماض سحيق تمثله تلك المدينة.
لم يكد يستقر بنا المقام حتى عكفنا على العمل والتطواف في كل مكتبة من مكتبات تلك المدينة الزاخرة بعبق التراث، وقد حظينا بلقاء طيب من طرف ملاك المكتبات، إذ لم يحجب عنا أي مخطوط مما ساعدنا كثيرا في فهرسة معظم كتب تلك المكتبات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مدينة تيشيت تعتبر من بين أهم مدن البلاد في الاحتفاظ بثروة كبيرة من المخطوطات الوطنية.
وبعد عودتنا قمنا بتحقيق ما أحضرناه من أسماء تلك المخطوطات النادرة، ثم رتبناها تحت عناوين الحقول المعرفية الكبرى من تفسير، وحديث نبوي شريف، وعلوم لغة، وتاريخ وغيرها. وبقى هذا العمل ملكا للمعهد الموريتاني للبحث العلمي، ولا أدرى ماذا فعل الله به، إذ لا أملك منه نسخة خطية، غير أنني أعتقد أنه عمل يستحق العناية لما للمدينة التي هو نتاجها من أهمية تاريخية ضمن منظومة المدن التاريخية المعترف بها عالميا. ولا شك أن من يطالعه سيجد لا محالة صورة ناصعة لمجتمع العلم والعلماء، وسيقرأ درسا متكاملا عن الحقبة التاريخية التي كانت عليها البلاد في تلك الفترة.
وأيا ما كانت وضعية ذلك العمل فإنني أدعو القيمين عليه بإظهاره للمشتغلين بتراث هذه الأمة، فبلادنا ما زالت في حاجة ماسة إلى مخزوناتها التاريخية، لكي تستقيم هويتها التاريخية، ويستقر قرارها.
بقلم:د.اسلم ولد السبتي أستاذ الأدب القديم في المدرسة العليا للتعليم.