استيقظ الموريتانيون على انقطاع الإنترنت عبر الهاتف المحمول (الجيل الثالث والرابع) بعد أن تعودوا على الابحار في عالم الإنترنت بلا حدود لسنوات طويلة. كان هذا الانقطاع له مبرراته من قبل الدولة لحفظ الأمن بعد الانتخابات الرئاسية 2024، حيث تم تداول شائعات وصور قد تهدد الأمن.
ومع ذلك، كان لهذا الانقطاع آثار إيجابية ملحوظة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والصحي. لأول مرة، تواصل الناس بشكل مباشر، وقرأوا الكتب المهملة، وأصبح الوقت له معنى.
صفحات الفيسبوك، الماسنجر، الواتساب، وتويتر تُظهر ما نفعله من خير أو شر. التكنولوجيا الحديثة حشرتنا في الزاوية، حيث أصبحت أفعالنا وأقوالنا مسجلة بشكل دائم، مما يمنع الناس من العمل في الخفاء وتجاهل التحذيرات الشرعية.
الوازع الذي يمنع من ارتكاب الجرائم ليس الدين وحده، بل أيضًا العلم بأن صاحب التشريع يشاهد كل أعمالنا من خير وشر. نياتنا وأقوالنا وحركاتنا تسجل بواسطة أجهزة هذا المشرع، وسنقف بعد الممات أمامه، ولن نستطيع التهرب من أدق أعمالنا.
تقنيات الصوت والصورة أصبحت ضرورة لا غنى عنها في حياتنا اليومية، مثل الهواتف الذكية التي لا يخلوا منها بيت. إن لم نتمكن من الهروب من عقاب محكمة الدنيا، فلن نفلت بالتأكيد من عقاب صاحب التشريع السماوي. العلم لم يترك لنا خيارًا، وما من عمل هام إلا وله حساب يضبط دخله وخرجه، وربحه وخسارته. فالإسلام يؤكد دائمًا على تمدين الإنسان قبل تشييد العمران، والعلاقة الوحيدة الصحيحة بين الناس ورب الناس هي إسلام الوجه له وإحسان الاستمداد منه.
عندما نعيد قراءة الحديث النبوي الشريف بتعمق، يجب أن نتوقف عند سؤال جبريل عليه السلام عن الإحسان وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. وعليه فإن الشرع والعلوم لم تترك لنا أي خيار، ولم يبق أمامنا إلا أن نسلم بأن قضية كل منا سوف تقدم أمام محكمة إلهية، وبأن هذه المحكمة هي التي قامت بإعداد هذا النظام العظيم لتحضير الشهادات التي لا يمكن تزويرها. ونرتل بكل خوف وإجلال قوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا﴾ (الكهف: 49)، وقوله جل وعلا: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ (الإسراء: 13-14).
فأنت أمام عدسات تعمل ليلاً ونهاراً بدون كلل، فحاسب نفسك عزيزي القارئ قبل فوات الأوان. وعند محاسبة المرء نفسه سيتعرف إليها جيداً، ومن عرف نفسه عرف ربه، ويهذب أخلاقه وسلوكه، حيث يرتقي إحساسه بالآخرين، وتصبح تصرفاته أكثر نعومة وأناقة. الإسلام يؤكد دائمًا على تمدين الإنسان قبل تشييد العمران لأن الإنسان غير المتمدن لا يعجز فقط عن استثمار الإمكانات الحضارية بل يعجز عن المحافظة على الموجود منها. العلاقة الوحيدة الصحيحة بين الناس ورب الناس هي إسلام الوجه له، وإحسان الاستمداد منه، والاعتماد عليه، واعتبار الدنيا مهادا للآخرة وجهادا لكسبها.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: شيخ زانٍ، وملك كذاب، وعائل مستكبر” (مسلم). العدوان على الأعراض فاحشة، فإذا أصابت هذه الفاحشة امرأة الجار كانت أعظم. روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه، ويقول له أدخل النار مع الداخلين” (بن أبي الدنيا).
إن من أبغض الناس إلى الله، امرءًا يظهر بين الخلق بالصلاح والخشوع فإذا أمكنته رذيلة وهو منفرد لم يتورع عن الإيغال فيها. عن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لأعلمن أقوامًا من أمتي يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال تهامة، بيضاء فيجعلها الله هباء منثورًا”. قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا جلهم لنا لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أما هم فإخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها” (ابن ماجه).
العقوبات المعجلة أو المؤجلة سياط لابد منها لقمع الغرائز الشرسة في الحياة الإنسانية.
الإسلام يريد أن تستقيم أجهزتك النفسية أولاً، فإذا توفرت لها صلاحيتها المنشودة بصدق اليقين وسلامة الوجهة، فكل عمل تتعرض له في الحياة يتحول من تلقاء نفسه إلى طاعة. ولن تصل إلى هذا إلا إذا كنت دائماً تحاسب نفسك بنفسك. فما من عمل هام إلا وله حساب يضبط دخله وخرجه، وربحه وخسارته، إلا حياة الإنسان فهي وحدها التي تسير على نحو مبهم لا يُدرى فيه ارتفاع أو انخفاض.
هل يفكر أكثرنا أو أقلنا في إمساك دفتر يسجل فيه ما يفعل وما يترك من حسن أو سوء؟ لو أننا نخبط في الدنيا خبط عشواء، ونتصرف على ما يحلو لنا، دون معقب أو حسيب، لجاز علا تفريط وحمق أن نبعثر حياتنا كما يبعثر السفيه ماله، وأن نذهل عن الماضي وما ضم من تجارب وأن نقتحم المستقبل متهيبين خطأ أو خطيئة. فكيف ولله حفظة يدونون مثقال الذرة، ويعدون لنا قوائم بحساب طويل. أما يجب أن نستكشف نحن هذا الإحصاء الذي يخصنا وحدنا؟ أما ينبغي أن نكون على بصيرة بمقدار ما نفعل من خطأ وصواب؟
هذا الانطلاق في أعماق الحياة دون اكتراث بما كان ويكون، أو الاكتفاء بنظرة خاطفة لبعض الأعمال البارزة أو الأعراض المخوفة، نذير شؤم. وقد عده القرآن الكريم من الأوصاف البهيمية التي يعرف بها المنافقون الذين لا كياسة لديهم ولا يقين: ﴿أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ (التوبة: 126).
علماء التربية في الإسلام متفقون على ضرورة محاسبة المرء لنفسه، تمشياً مع طبيعة الإسلام، وإنفاذاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم” (الترمذي)، وقوله: “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله” (المنذري). الإنسان في لحظات ضعفه ينسى حقيقة رسالته في الحياة، وحاجته إلى رعاية الله في كل لحظة من لحظات وجوده على هذه الأرض. وعندما ينسى الإنسان ذلك، فإن قلبه يخلو من تعظيم خالقه، وحينئذ يأخذه الغرور بقوته وعلمه وينسى نفسه.
فهل يفيق رواد الإنترنت ويحاكموا أنفسهم مستفيدين من هذا الانقطاع الذي جعلهم يراجعون أنفسهم؟ أم أنها سحابة صيف عارضة وترجع حليمة لعادتها القديمة؟
الهوامش:
تفسير ابن كثير , دار طيبة, 1422هـ / 2002م
*محمد الغزالي:ركائز الإيمان بيت العقل والنقل, دار لقلم دمشق, ط,4 ,1420ها 1999م
*محمد الغزالي : جدد حياتك, دار القلم: دمشق , الطبعة 15، 2003 م
*محمد الغزالي : جدد حياتك, دار القلم: دمشق , الطبعة 15، 2003 م
* وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، ترجمة، ظفر الإسلام خان، (مدخل علمي إلى الإيمان)، مراجعة وتقديم، الدكتور عبد الصبور شاهين، الطبعة الثانية، المختار الإسلامي 1964 م.
*عبد الكريم بكار: تجديد الوعي, دار القلم, الطبعة الأولى, 1421 ها ـ 2000 م
* دين الفطرة:استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة انسانية,المرابط ولد محمد لخديم,تصدير الأستاذ الدكتور محمد المختار ولد أباه, رئيس جامعة شنقيط العصرية والشيخ الدكتور أمين العثماني عضو اللجنة العلمية والتنفيذية للأكاديمية الهندية بدلهي الهند, تقديم:الأستاذ الدكتور:أحمدو ولد محمد محمود,رئيس قسم الفيزياء بكلية العلوم والتقنيات جامعة أنواكشوط,والمفكر الاسلامي,سمير الحفناوي جمهورية مصر العربية, ط, دار المعراج,دمشق/بيروت سنة 2014م.*التجديد: مجلة علمية فصلية محكمة, تصدر عن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا العدد الأول, رمضان ها1417/ يناير1997 م