المجتمع الموريتاني: بين ضياع الهوية وسلطة الثقافة الجماهيرية!/المرابط ولد محمد لخديم

حين يولد الإنسان، لا يأتي إلى العالم صفحةً بيضاء، بل يُستقبل بفيضان من العادات والتقاليد والمقولات الشعبية، ضمن نظام رمزي متكامل يشكل مرجعيته الشعورية والعقلية. هذه البيئة الثقافية تبرمجنا بطريقة تفكير محددة، وتوجه مشاعرنا وتصوراتنا، وتعيد تشكيل ما نعتبره ممكنًا أو مستحيلًا.
       ولكن، في ظل العصر الرقمي وثقافة “الترند”، ظهرت ملامح ضياع الهوية وفقدان المعنى، خاصة في موريتانيا، حيث أصبحت الثقافة الجماهيرية تشكل الذوق العام، وتؤسس لقيم جديدة تفتقد العمق، وتهمّش التراث والعقل.
مجتمع بلا هدف… ومادية طاغية
      تحوّل المال من وسيلة إلى غاية. من مشروع للكرامة والتنمية إلى أداة للتفاخر في مناسبات لا تُنتج وعيًا ولا تقدمًا. أصبحت الولائم، وحفلات الأعراس، وسهرات الطرب، مشاريع استنزاف للوقت والموارد، على حساب التعليم والبنية التحتية والتخطيط المجتمعي.
ابن عاصم يقول:
القصدُ بالتكليف صرفُ الخلقِ
                  عن دعوات النفس نحو الحقِ

      لكن “الصرف” اليوم يتم نحو الشهوات لا نحو المعاني. بينما كان في أواخر حكم معاوية ولد الطايع توجهٌ نحو الكتاب والعلم، بدأ الناس يزينون بيوتهم بالمكتبات، واعتقدنا أن “بلاد المنارة والرباط” ستعود. غير أن الطفرة لم تدم، وتراجعت لصالح سطوة المادة وثقافة الواجهة.
فهل تُقاس النهضة بعدد الحفلات أم بعدد الكتب ودُور المعرفة؟ وهل يُقاس تقدم الأمم بمظاهر الترف أم بعدد العقول المنتجة؟
      الثقافة الجماهيرية المعاصرة أنتجت نماذج حياة محورها اللذة والسطحية، يقودها نجوم الغناء والموضة، وتروّج لشعارات مثل: “عِش اللحظة”، و”افعل ما تشاء”، دون مساءلة أو حدود.
معادلة رمزية تختزل التحول:
العقل + القلب = البطن + الفرج
     فأين موقع الإنسان في هذا التحول؟ هل هو مجرد كائن استهلاكي غريزي؟ أم هو كائن عاقل ذو وعي ومسؤولية؟
المدرسة اليوم، في كثير من الأحيان، تفصل التلميذ عن تراثه وثقافته، وتنتج أجيالًا تحمل شهادات بلا وعي، وبلا بوصلة أخلاقية أو فكرية.
     في المقابل، كان الأجداد يجتمعون في المجالس يطلبون العلم للعلم، ويغرسون في أبنائهم القيم قبل العلامات، والتوحيد قبل الوظيفة.
الإسلام وبناء الضمير
    ما يميز الإسلام أنه يبدأ من بناء الضمير:
“مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ” [ق: 18]
“اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا”
[الإسراء:14].
       غير أن الواقع يكشف عن أزمة ضمير. الرشوة، المحسوبية، الزبونية، النفاق الاجتماعي… كلّها أعراض لانفصال السلوك عن الإيمان الحقيقي بالحساب والجزاء.
      السؤال المركزي: هل سنبقى منبهرين بحضارة تدهشنا من الخارج وتُفرغنا من الداخل؟ أم نستطيع استعادة هويتنا وبناء نهضة أصيلة لا تتنكر للحداثة ولكن تُخضعها لقيمنا؟
لقد آن الأوان لإعادة تعريف التدين، لا بوصفه طقوسًا شكلية، بل سلوكًا راقيًا، وضبطًا للنفس، وتخطيطًا للحياة على بصيرة ورؤية.
    إن أعظم مشروع يمكننا البدء به هو بناء الذات، وتربية الضمير، وتحرير الإنسان من عبودية الهوى إلى عبودية الحق. فبذلك فقط نعيد للحياة معناها، ونستعيد هدفنا كأمة.
فهل نملك الشجاعة أن نبدأ المحاسبة… قبل أن تُفتح دفاتر السماء؟!

المراجع:

1. محمد الغزالي: ركائز الإيمان بين العقل والنقل، دار القلم، دمشق، ط4، 1999م.
2. محمد الغزالي: جدد حياتك، دار القلم، ط15، 2003م.
3. وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، ترجمة ظفر الإسلام خان، المختار الإسلامي، 1964م.
4. عبد الكريم بكار: تجديد الوعي، دار القلم، 2000م.
5. المرابط ولد محمد لخديم: معرفة الله: دلائل الحقائق القرآنية والكونية، دار الوثائق / دار وحي القلم، 2001–2002م. حاصل على جائزة شنقيط للدراسات الاسلامية في نسختها الثانية سنة 2003م.
6. المرابط ولد محمد لخديم: دين الفطرة: استنطاق الرياضيات والفيزياء بلغة إنسانية، دار المعراج، بيروت / دمشق، 2014م.

شاهد أيضاً

اصدارت: “الطريق إلى تينبوكتُ” إضافة نوعية للمكتبة الموريتانية/ د. محمدو أحظانا

      نشر الكاتب الموريتاني المتميز، صاحب القلم الحريري محمد فال ولد سيدي ميله …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *