إسهامات الشناقطة في نشر العلم والمعرفة في الخليج… حضور تاريخي يتجدّد/المرابط ولد محمد لخديم

 

  شهدت الدوحة، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة والستين لاستقلال موريتانيا، تنظيم أسبوع ثقافي موريتاني احتضنه مكتب الجالية بالتعاون مع وزارة الثقافة والإعلام القطرية. وقد شمل البرنامج عروضًا للتراث الموريتاني وفنون الحياة التقليدية، إلى جانب فعاليات فكرية كان أبرزها محاضرة علمية عن إسهامات الشناقطة في نشر المعرفة بدول الخليج.
محاضرة تستعيد ذاكرة العلم وتنوّع روافده
  اختير الدكتور محمد الحاج لإعداد وإلقاء المحاضرة بالنظر إلى أهمية موضوعها وثراء سجله التاريخي.
وقد استهل مداخلته بأبيات شعرية بعنوان “تحية من شنقيط لأهلنا في الخليج” جسّدت عمق الروابط الروحية والثقافية بين شنقيط وجزيرة العرب:

بح بالمحبة واحكِ الشعرَ منتسما
             روحَ النسيمِ فذا موجُ الخليجِ سما
أرضُ الجزيرةِ ليس الشعرُ يربكُها
          وصفُ القصيدِ أطالَ السهلَ والأكما
أرض العروبة والإسلام حق لها
            فيها الأمين أقام السيف والقلما
نهدي التحية من شنقيط حملها
          موج المحيط وصالا قلما انصرما
بدوحة المجد نحيي ذكر من تركوا
                   إرثا أنار دروب العلم والعلما

      وانطلق الدكتور بعد ذلك في استعراض الدور التاريخي للعلماء الشناقطة في النهضة العلمية التي شهدتها منطقة الخليج منذ بدايات القرن الماضي، خصوصًا في المملكة العربية السعودية التي تبوّأ فيها الإمام أبو بكر بن يوسف الشنقيطي إمامة الحرم المكي، من أعلى مراتب العلوم الشرعية.

     كما تطرّق إلى العالم الجليل آب ولد اخطور الذي كان له أثر بالغ في إحياء علم أصول الفقه بالحجاز، وتتلمذ عليه كبار علماء العصر مثل ابن باز وابن عثيمين.

مدرسة النجاة… من الزبير إلى الخليج

     من أبرز المحطات التي تناولتها المحاضرة سيرة الشيخ محمد الأمين بن فال الخير الحسني الشنقيطي، مؤسّس مدرسة النجاة في مدينة الزبير بالعراق، والتي خرّجت آلاف الطلاب من العراق والكويت والسعودية، كان من بينهم المفسّر الكبير عبد الرحمن بن ناصر السعدي.

     أتذكر أثناء مشاركتي في مؤتمر الدوحة لحوار الأديان في قطر سنة2011م أن أحد الباحثين العراقيين سألني: «هل تعرف العلامة محمد لمين الشنقيطي الذي كان مدرسًا وعالمًا محدثًا في العراق؟» فأجبتُه بالنفي. حينها بدأ الباحث يتحدث باسهاب عن هذا العالم الموريتاني المقاوم للاستعمار الإنجليزي، مسلطًا الضوء على إنجازاته العلمية ودوره في نشر العلم، مع الإشارة إلى أن تاريخ هذا الرجل لا يزال مجهولًا لدى الكثير من الموريتانيين. وقد كانت هذه فرصة سانحة للتعرف على شخصية علمية بارزة تستحق الاهتمام والتعريف…
      وُلِد الشيخ محمد الأمين بن فال الخير سنة 1292هـ في ولاية اترارزة، ونشأ في أسرة علمية، وحفظ القرآن قبل البلوغ. تتلمذ على أعلام بارزين…
بدأ رحلته الكبرى إلى الحج وطلب العلم سنة 1318هـ، فدخل المغرب والتقى بالشيخ ماء العينين وأعلام آخرين، قبل أن ينتقل إلى مصر سنة 1319هـ حيث أقام بالأزهر الشريف ودرس على مفتي الديار محمد عبده، كما التقى الإمام اللغوي محمد محمود ولد التلاميد التركزي.
واصل رحلته إلى الحرمين الشريفين واستقر بالمدينة المنورة، ثم انتقل إلى مكة وأخذ عن إمام الحرم الدكالي وأحمد سالم بن الحسن الديماني. كما سافر إلى الهند واليمن والبحرين والكويت والبصرة، ليستقر أخيرًا في الزبير حيث أسّس مدرسة النجاة الأهلية التي أشرف عليها حتى وفاته سنة 1332هـ.
لم تقتصر جهوده على التعليم، بل حمل راية الجهاد ضد الإنجليز، وخاض معارك إلى جانب الجيوش التركية، مما جعل البريطانيين يلاحقونه ويضيّقون عليه. وكانت مدرسته عقبةً كبرى أمام انتشار التعليم والثقافة الغربية في المنطقة.
وقد وثّقت وزارة الثقافة العراقية سيرته في عهد صدام حسين في مجلدين بعنوان: “من أعلام البصرة… الشيخ الشنقيطي الزبيري”، كما ألّف كتّاب كويتيون أعمالًا عديدة حول سيرته وجهوده.

رحلات الحج ومصائر الحجاج الشناقطة

       استعرضت المحاضرة كذلك قصص العلماء الموريتانيين الذين شدّوا الرحال إلى الحج ثم اتخذوا مسارات مختلفة في المشرق. فمنهم من استقر مثل أولاد ماياب في المشرق العربي ومحمد محمود بن اتلاميد في مصر، فيما عاد آخرون إلى بلاد المغرب مثل الشيخ محمد لغظف الذي عيّنه السلطان مولاي حفيظ مفتيًا للديار المغربية.
أما الذين استقروا في الخليج، فكان لهم أثر مباشر في تأسيس المؤسسات العلمية والشرعية، من بينهم:
بي ولد السالك محمد الشيباني ولد محمد أحمد الطالب أحمد ولد ديد محمد عبد الله ولد الصديق الجكني
وقد كان لهؤلاء دور في وضع اللبنات الأولى لنظام الإفتاء والقضاء الشرعي في دولة الإمارات العربية المتحدة . كما برز في الكويت العالم يب ولد القاضي محمد فحفوظ الذي ألّف موسوعة واسعة في مدوّنة الأحوال الشخصية في الفقه المالكي.

عودة العلماء إلى الوطن

    عاد بعض العلماء إلى موريتانيا بعد استكمال رحلاتهم العلمية، ومن بينهم: محمد الأمين الشنقيطي سيدي عبد الله ولد حاج إبراهيم المجدري ولد حبل

     وقد أسهم هؤلاء في النهضة العلمية داخل البلاد، مستثمرين الخبرات التي اكتسبوها في رحلاتهم المشرقية والخليجية.

    ختاما: أكدت فعاليات الأسبوع الثقافي في الدوحة أن حضور الشناقطة في الخليج ليس طارئًا ولا عابرًا، بل هو امتداد لتقاليد علمية ضاربة في القدم جعلت من موريتانيا ــ أرض شنقيط ــ منارةً معرفية كان لعلمائها أثر كبير في التعليم، والفتوى، والتفسير، وترسيخ المرجعية المالكية في الخليج.
وقد جاءت المحاضرة لتذكّر الأجيال الجديدة بهذه الإسهامات التي لا تزال تثمر إلى يومنا هذا.

شاهد أيضاً

من قرار منع رمي النقود إلى مراجعة بنية المجتمع الموريتاني/المرابط ولد محمد لخديم

قرأت ما كُتب عن توجهات الدولة الجديدة في حربها على الفساد، وخاصة قرار منع رمي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *