تشهد محافظات الصعيد في مصر احتفالات كبيرة خاصة شهر مارس وأبريل من كل عام فيما يسمي بالعيد القومي لهذه المحافظات. وترتبط ذكري هذه الأعياد بذكري أيام شهدت انتصارات أهل الصعيد على جنود الحملة الفرنسية حيث تبدأ قنا في يوم 3 مارس احتفالاتها بذكرى موقعة البارود التي تم فيها تدمير اسطول فرنسا في نهر النيل، ثم سوهاج في 10 ابريل ذكرى موقعة هزيمة الفرنسيين في قرية جهينة ثم تليها احتفالات أسيوط في 18 ابريل ذكري ثورة قرية بني عدي ضد الحملة الفرنسية حيث تشكلت أقوى جبهات المقاومة ضد المحتل الفرنسي في صعيد مصر، بعد ان استطاع نابليون في عام 1798 الدخول بجيشه الحديث الي أرض مصر وحقق انتصارات سريعة على جيش المماليك الذي اخذ يتلقى الضربة تلو الضربة ويفر من أمام جيوش نابليون حتى وصل الي أعالي الصعيد في مصر.
كان الفارق كبيرا بين قوة أوربية حديثة تمتلك عتادا عسكريا متطورا، مدافع حديثة لم يشهدها العرب ولا المماليك من قبل، بنادق وأسلحة متطورة شديدة الفتك بكل من يقف أمامها، بالمقابل كان المماليك يتسلحون ببنادق قديمة ومدافع متهالكة، لا تستطيع الصمود كثيرا أمام هذه القدرات الاوربية الحديثة، سواء في العتاد أو في التكتيك العسكري. لم تكن شجاعة المماليك والفروسية التي تميزوا بها واشتهروا بها خلال أكثر من قرنين من الزمان كافية لأن تصمد امام هذا الطوفان العسكري، وأمام عبقرية قائد بحجم نابليون بونابرت.
كانت النتيجة انسحاب سريع لقوات المماليك في كثير من المعارك التي خاضوها ضد جنود الحملة. وأخذ الضعف يدب رويدا رويدا بين جنود المماليك، وانهارت الروح المعنوية لدي كثير منهم، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى عرض خدماتهم على جيش نابليون والتحاق بعضهم بجيش المحتل والمغتصب لأرض وطنهم. ثم انتهي الأمر في النهاية بعقد اتفاقية بين قائد المماليك مراد بك وكليبر قائد الحملة الفرنسية يعلن فيها خضوعه التام للفرنسين، ويصبح بمثابة الشرطي الذي يقوم بالفتك بكل من يحاول مقاومة هذا الوجود، وما فعله مراد في أحداث ثورة القاهرة الثانية خير دليل علي ذلك، حيث ساعد في القبض على عدد كبير من أبطال هذه المقاومة والفتك بهم، وكان سببا رئيسيا في القضاء على هذه الثورة العارمة.
لم تتأثر معنويات أهل الصعيد بما فعله نابليون بأكبر قوة عسكرية منظمة في مصر آنذاك، وهم المماليك أهل الفروسية والبطش، ولم يتأثروا أيضا بهزيمة جيوش الخلافة العثمانية أمام هذا الجيش الأوربي الحديث، ولم يفكروا بالتسليم أو الاستسلام لهذا المحتل الغاشم وقرروا المقاومة وهم يعلمون جيدا أن عدم اذعانهم ومقاومتهم ستكلفهم ثمنا باهظا في أموالهم واولادهم وأنفسهم. سريعا بدأت تتشكل قوي المقاومة، وتتحد وتفرز قيادتها الخاصة من رحم المعاناة والالم. تجمعت أطياف عدة لم تكن لتجتمع يوما ما لما بينهم من العدوات والثارات القديمة. اجتمع من بقي من المماليك مع العرب أعداء الأمس القريب حيث كان كل منهم يشكل معسكرا معاديا للآخر. معسكر العرب بقيادة شيخ العرب همام والمماليك بقيادة محمد بك أبو الدهب، وانتهت بهزيمة العرب والقضاء التام على أكبر دولهم في صعيد مصر.
تولت قيادة المقاومة زمام الأمور سريعا أسرة من أصول مغاربية: تتمثل في شيخ كبير طاعن في السن تميز بعلمه الواسع ورأيه الراجح وحضوره الواسع بين أبناء الحجاز وصعيد مصر، يدعي الشيخ مجمد الجيلاني المغربي الهاشمي السباعي وأخيه الشريف طاهر الجيلاني وابن اخته الشريف حسن أمير ينبع، حيث كان الحجاز يتبع آنذاك الدولة المصرية وامتدادا طبيعيا لصعيد مصر ويرتبط به ارتباطا شديدا. والأسرة السباعية هي اسرة لها تاريخ كبير في مقاومة المحتل في شتى بقاع الوطن العربي. فقد وقفت امام الاحتلال الفرنسي في مصر والمغرب والاحتلال البرتغالي واشتهرت بجهادها وعلمها. اعتمدت كثيرا على ما نسميه اليوم حرب العصابات القائمة على الكر والفر واستدراج العدو قريبا من حدود الصحراء لسرعة الهروب اليها. كانت تمتلك كثيرا من المقومات التي جعلتها تتمتع بثقة اهل الحجاز واهل مصر وتبوأت زمام المقاومة حتى المماليك انضم كثير منهم تحت لواء هذه المقاومة أبرزهم حسن بك الجداوي. استطاعت قيادة هذه المقاومة بما تمتلكه من مقومات الشرف والانتماء لأهل بين النبي محمد (صلعم) ومقومات العلم الواسع. وحب الناس. ان تجمع حولها ما يقرب من سبعة الاف مقاتل من اهل الحجاز والتف حولها اهل مصر عموما. واستمرت هذه المقاومة حتى خروج الحملة وحتى بعد استشهاد قيادتها.
شكلت هذه المقاومة بقيادة الجيلاني تهديدا كبيرا لوجود الحملة، وكانت سببا رئيسيا من أسباب هزيمة نابليون امام اسوار عكا وتراجعه عن حصارها والإسراع بالعودة لمصر. كما انها كبدت نابليون أكبر هزيمة نفسية يشهدها في تاريخه خاصة بعد غرق اسطوله في نهر النيل في موقعة البارود بمحافظة قنا ومن بينهم سفينته الخاصة إيطاليا.
لقد لعب الجيلاني ورجاله دورا كبيرا مازال خفيا في أرشيف التاريخ وبين ركام الوثائق المخزونة في الأرشيف المصري، ويحتاج كثيرا من الجهود المضنية للكشف عنه وليس الاحتفال به دون الوصول لحقيقته وصحة احداثه ومكتسباته.
إننا امام دور تاريخي كبير لمقاومة لم تجد أحدا من المؤرخين يسلط الضوء على حقيقة احداثها وقوة ضرباتها بل نسبت هذه المقاومة في كثير من كتب المؤرخين للمماليك ولمراد بك وهو زعم يحتاج منا التصحيح والتحقق.