وتأسيسا على هذا التعريف نرى أننا مازلنا نتمسك بعادات وتقاليد أو جدها العرف أصلا أكثر من تمسكنا بتعاليم ديننا، مع أنها تتنافي مع الحياة الحضارية والدين, ونحن إلى جانب هذا غير مقتنعين بها، لكن الخوف من النقد، والخروج من المألوف، وما تواضع عليه المجتمع، هو الذي يجعلنا نرضخ لها فمثلا: ظاهرة السحوة: وهي كلمة حسانية ملحونة من الحياء، والسحوة عند الموريتانيين هي عادة “التحاشي”
وأقوى مجال تظهر فيه هذه العادة هو العلاقة بين الأزواج الشباب من جهة وبينهم مع أصهارهم الكبار من جهة أخرى.
(وتمتد علاقات “السحوة” هذه لتشمل مجالات أخرى يظهر فيها المجتمع التقليدي قدرته على ضبط العلاقات العاطفية الحميمة بين الزوجين وبينهما مع أطفالهما الصغار أيضا.
فالزوج ينبغي أن لا ينادي زوجته باسمها علنا أمام أبويه وأبويها، وحتى الكبار الآخرين من غير سنه، وهذا الأمر أكثر صرامة في جانب الزوجة، حيث تمنعها التقاليد من مناداة زوجها باسمه الصحيح طيلة حياتها ولذا فإنها تلجأ إلى الكناية عنه بضمير الغائب “هو” أو بإشارة بديلة مثل “ذاك” أو ” الراجل”.
أما أن يعبر الأبوان عن عواطفهما الأبوية بمداعبة أطفالهما أمام الآباء فذلك محظور ويعتبر من الوقاحة بمكان.
لكن العادات العربية الصميمة والتقاليد الإسلامية التي فصلها الفقهاء في المشرق لا تشير إلى لزوم شيء مما ألزم به الموريتانيون أنفسهم.
بل إن معظم سلوك العرب المسلمين هو عكس ذلك، حيث لا حرج في أن تتكلم المرأة مع خطيبها أو زوجها أمام أبويها، ولهما الحق في مداعبة أطفالهما أمام الجميع، كما لا معرة في أن يأكل الرجل عند أصهاره أو يمازحهم.
فالحياء الشرعي المطلوب: هو حياء أخلاقي يقصد منه عدم الوقاحة والتبجح بفعل المنكر والفاحشة التي لا مبرر لها.ونخشى ونحن نعيش في ظل المدنية اليوم أن يقرها العرف.
ولقد استغرب أحمد بن الأمين الشنقيطي ” الموريتاني” أن أهل شنقيط يجعلون الوليمة في الزفاف على ولي المرأة وهو ما يخالف السنة عند ما قارن بين مجتمعه الأصلي والمجتمع الذي أقام فيه “مصر”.
وقد لا يختلف كثيرا موقف محمد بن أبى بكر اللمتوني ففي رسالته التي أرسلها إلى العلامة السيوطي نجد استمرارا للوعي الممزق لدى الفقيه الذي يحمل تصورا نموذجيا للمجتمع الإسلامي الأبوي في حين لا يزال المجتمع يورث ابن الأخت كسمة أمومية عنيدة، ومن المعلوم أن الشواهد تؤكد أن المجتمع الصنهاجي ظل يحمل بقايا قرابة أمومية حتى نهاية القرن التاسع الهجري قبل النزوح الحساني الكامل…
ليحدث بعد ذلك انقلاب أبوي كبير في محيط العائلة البيظانية غير أن العامل الأهم الذي ساهم في مسح الرابطة الحقوقية الأمومية لن يكون مجرد الهيمنة الحسانية على المجال وإنما أيضا ردة الفعل الدينية القوية التي دافع بها الصنهاجيون “السكان المحليون” في ظل عملية التعريب والتسامي بالدين، تلك التي جعلت المنظومة الفقهية الإسلامية الأبوية تسود إلى حد كبير حسب رأي المؤلف مضيفا أن الإسلام الأبوي المتعمق لم يعرف ثورته الحقيقية إلا بعد المثاقفة الحسانية نسبيا.(3)
ومن الملاحظ اليوم أن أثار تلك العادات ما تزال قائمة عندنا رغم تبدد نظام الأنساب والإرث القديم، فالمرأة المتزوجة تفضل الإقامة عند أهلها سنة كاملة قبل أن ترحل إلى أهل الزوج وهذه العادة ترتبط بتقاليد قديمة كان فيها الزوج ملزما بالانتقال للإقامة مع أهل زوجته لأن أولاده سيأخذون ميراثهم من خالهم وليس من أبيهم.
ونظرا لكثرة المفاهيم المستعملة في التحليل والمفتقرة إلى التعريف، خاصة بالنسبة لغير المختص أو المتمرس على الأقل تبقى الإجتهادات والملاحظات الشخصية سيدة الموقف.
في كتابه المجنمع الفضفاض يستعرض لنا الكاتب محمد محمود ولد سيد يحي بعض المشاهد التي تقوي حجته منها: انطباع القاضي الرحالة المغربي ابن بطوطة في القرن الثامن الهجري عن قرية أيولاتن التي تفترض أن تكون الثقافة الإسلامية فيها أقوى بكثير من محيطها البدوي وهو الوضع الذي حمل صدمة فقيه مسلم قادم من مجتمع حضري استقرت فيه التقاليد العربية الأبوية الإسلامية الحريمية، حينما شاهد ثقافة أمومية لا تزال تورث ابن الأخت وتعطى حرية كبيرة للمرأة في مجال مخالطة الرجال” الأجانب” كما لاحظ عندما ما زار قاضي المدينة المرأة التي يتزوجها الرجل ولا تسافر معه ـ وهذا ما جعله يتعجب قائلا ” إن نساءهم أعظم شأنا من الرجال” ويشرح لنا المؤلف عدم تأثر المرأة الموريتانية بالطلاق وذالك بقوله:
إذا كانت المرأة تشترط لنفسها إمتلاك قرار الإنفصال …يتواصل…