عرضنا في بعض المقالات السابقة، جزءا مما حصلنا عليه من رسائل علماء مدينة شنقيط، الذين وفقهم الله في أداء فريضة الحج على الرغم من المصاعب الجمة التي يتعرض لها الحجاج في طريقهم إلى البلاد المقدسة، وقد ألمحنا أن تلك الرسائل تعتبر مصادر هامة في قراءة تاريخ تلك المنطقة، وبما أننا نطمح في كل وقت إلى كتابة تاريخ بلادنا، فإننا نضع هذه المصادر أمام علماء البلد لاستثمارها في موضوعها من تلك الكتابة، ولا نعدم فائدة في كل رسالة تكتشف، إذ تتميز الرسائل بأسلوب أصحابها، وبما يختارونه من قضايا يركزون فيها على ما أهمهم، وشغل بالهم إبان الرحلة الشاقة، وقد يدخل تخصص الحاج في كتابة الرسالة، فإن كان أديبا حشاها بمواضع الأدب، وذكر الأشعار، وإن كان فقيها لجأ إلى قضايا الفقه، وإن كانت له اهتمامات اجتماعية بحث عما له علاقة بذلك، كقضايا المجتمع الذي يمر به من أعراف وتقاليد وغيرها.
ولقد تحدثت عن ركبين حاجين في مقالات سابقة، وها أنا أقف على رسالة توحي بأن ركبا ثالثا قد مر بالمغرب قاصدا البلاد المقدسة، وكان ذلك في سنة 1317ه، فقد ظفرت برسالة نادرة لقاضي شنقيط محمد البشير بن البخاري بن أحمد محمود، تنحو نحو رسالة عالم شنقيط أحمد بن حبت التي عرضناها في مقالة سابقة، وتظهر الفوارق الكبيرة بين الرسالتين وبين القضايا التي عرضتها كل رسالة على حدة، ولا نطمح إلى المقارنة فليس هذا مكانها، وإنما حسبنا أن نقدم بصفة ملخصة لمضمون الرسالة الحالية، لا غير.
نشير أولا إلى أن هذه الرسائل التي نقف عليها لا تكون دائما في شكل مكتمل، بل في أغلبها مصابة بتهتك في الورق لضعفه، ولقدمه، ولتبادل الأيدي عليه ما يصيبه بالتلف في بعض أطرافه مما يسقط كثيرا من كلماته، وتبدو غير مقروءة في بعض الأحيان، وهذا ما دعانا إلى أن نقرأ مضمون الرسالة ونعالجه بمنهجية تختلف عن معالجة الرسالة المكتملة.
ونعود إلى رسالتنا الحالية، فصاحبها هو قاضي شنقيط محمد البشير بن البخار بن أحمد محمود المتوفى سنة 1335ه، فقد تولى القضاء في المدينة، وآية ذلك ما وقفت عليه في بعض الوثائق من حكم مهره باسمه، ومنطوقه: الحمد لله والصلاة والسلامان على أفضل من عَبَدَه
وبعد فقد وكلت فاطمة بنت مولود الشريف، ملاي اعل بن الحبيب الولاتي، على ما تطالب به أبا ابنتها مريم بنت البشير بن انبارك التكني القاطن اليوم بولاتة، وكالة تامة وعلى الخصام في ذلك وعلى الاستمرار والدوام وذلك نفقة للابنة المذكورة سبعة عشر عاما وأسقطت منها ستة أعوام احتياطا منها في أشياء وصلتها من عنده أنفقت بها الابنة المذكورة التي أوجب الله عليه نفقتها قبل سقوطها عنه بدخول زوج لها بها. وبه كتب وشهد لثلاث بقيت من شوال عام 1316ه محمد البشير بن البخاري بن أحمد محمود تيب عليهم آمين.
والرسالة التي كتبها لا تشير إلى المكان المكتوبة فيه من بين المدن المغربية، وقد تكون مدينة مراكش، أو اصويرة أو غيرهما. أما الملك المرسلة إليه فهو مولاي عبد العزيز، وقد بدأت بالدعاء للسلطان من مثل قوله:” سلام لا يضاهى، وتحية لا تتناهى، قد بلغت في الحسن منتهاها، أحسن من الشموس وضحاها، سلام يصغر له العالَم، وتكسف له الشموس لو تبسم..”. وقال: ” اللهم أعن أمير المومنين بالنصر والعز والتمكين”. وبعد هذا التمهيد الموجز جاء الغرض من الرسالة حيث قال القاضي محمد البشير رحمه الله:” وبعد فموجبه أوجب الله لأمير المومنين عزا وشرفا وسعيا مشكورا، اعلم أن هذا ركب الشناجطة أتوك في سفر بعيد، قادمين عليك ممتثلهم.. في حج بيته، وزيارة جدك صلى الله عليه وسلم.. يريدون منك أن تنظر إليهم بعين العناية، نظر الله إليك بعين عافيته”، ثم أردف القول في تبيين الغاية المقصودة من أمير المومنين حيث قال: ” واعلم أنا نريد منك الإعانة والله أعلم بما نحن فيه، ومتوجهين للسفر.. والبلاد المخوفة، والمدن المستوخمة، والبحار المستوحشة، والملوك المستصعبة، والأزراء والعباد المستثقلة، والسفن والمراكب المستعجلة، ففرجوا عنا في جميع هذا مما هو تحت ولايتكم، وبتوجهكم وشفاعتكم لما تحت ولاية غيركم، مما في أقاصي البلاد النائية عنكم بإرسالكم له بكتبكم، وطوابعكم”. ثم أفاده وبين له ما يستحقه الحاكم العادل بقوله: ” وأبشر فإن الإمام العادل من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله”. واسترسل في ذلك الوعظ مشددا عليه، ومحثا له على أن يكون خليفة الله في خلقه، وما يتطلبه ذلك، حيث قال: “اعلم أنك خليفة الله في بلاده وعباده، فاستعد في ذلك كله ليوم لقائه وميعاده، وأحسن في هذا كله كما أحسن الله إليك، فإنك قادم عليه وراع له وسائلك غدا عن رعيتك وما فعلت فيها”.
وقد عرض إلى قضية مهمة وهي طلبه الوقوف ضد الكفار، واستعمل الشعر للحث على موقف حازم من كل القضايا التي طرحها، وجاءت الأمثلة الشعرية مأخوذة من شعر الحماسة، ومن بينها ما قاله بشر بن أبي خازم:
أتوعدني بقومكَ يا بنَ سعدَى وذلكَ من ملماتِ الخطوبِ
وحولي منْ بني أسدٍ عديـــــــــدٌ مبنٌّ بينَ شبــــــــــــــــــــانٍ وشيب
بأيديهمْ صوارمُ للتَّــــــــــــــــــــــــــــــداني وإنْ بعدوا فوافيةُ الكـــــعوبِ
وقال آخر:
يجيبون الصريخ إذا دعاهم إلى طعن الفوارس بالحراب
وقال آخر (الأفوه الأودي):
وخيل عالكات اللجم فينا كأن كماتها أسد الضريب
وهذه هي المرة الأولى التي أقف فيها على أبيات من الشعر، يستشهد بها قاض يبث من خلالها أفكاره ورؤاه اتجاه سلطان من سلاطين المغرب، فهو موقف طريف وذو دلالة بالغة على استثمار علماء شنقيط لمخزونهم الشعري في مثل هذه المواقف.
لا تذكر الرسالة أسماء الركب، ولا المدينة التي كتبت فيها الرسالة كما بينا سابقا، ولا الجواب الذي أجاب به السلطان رسالة الركب، وهل استقبلهم أم لا؟ فالرسالة كانت رسالة وعظية، ذات بعد حماسي في بعض جوانبها، تنبئ عن موقف القاضي الحازم الذي يقدم طلباته أمام سلطان عرف بمواقف معينة، لكنه لا يتذلل بل يقدم رأيه ويعلن عن حالته ويطلب الإجابة والاستجابة، مع أن ذلك كله يدخل في باب النصيحة حيث قال:” وفعلنا هذا نصحا، لأن الدين النصيحة”.