يعتبر كثير من المفكرين والكتاب بداية القرن التاسع عشر الميلادي هي مرحلة التحول الكبير واللحظة الفارقة في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية الحديثة . ولعل الكثير منهم يرجع سبب هذا التحول لنجاح الحملة الفرنسية في الدخول إلى ارض مصر وسيطرتها على مقاليد الحكم في مصر في عام 1978. وهؤلاء يرون أن الحملة الفرنسية هي حملة تنويرية أضاءت سماء مصر ثقافة وتقدما، رغم أنها كانت حملة استعمارية بكل ما تحويه الكلمة من معني، حتى وإن حاول البعض تجميل صورة هذه الأطماع التي يحمل التاريخ سجلا عظيما لأسبابها الزائفة على مر تاريخ الأمة الإسلامية بداية من حملات العصور الوسطي حتى العصر الحديث.
بيد أن ما يدهش القارئ لتاريخينا الحديث والمعاصر خصوصا ما فاضت به أقلام المؤرخين في هذه الفترة، هو سقوط أبرز الشخصيات الرائدة والعظيمة في هذه الفترة من كتباتهم ومن أوراق التاريخ الرسمية. لدرجة ألا نكاد لهم اثرا في مناهجنا الدراسية في مختلف البلدان العربية، رغم إن هؤلاء الأشخاص مازال لهم وجود كبير في الذاكرة الشعبية. ويتضح ذلك عندما تتجول في قري صعيد مصر فتجد محلات تحمل اسم “بوتيك احمد ابن ادريس” أو “عصارة الجيلاني” على سبيل المثال، وعندما تسأل صحبها عن سبب التسمية يجيبك إنهم أولياء لله توارثنا حبهم والاعتزاز بهم من أباءنا وأجدادنا وإن كنا نجهل دورهم الحقيقي. والحقيقة أن الذاكرة الشعبية مازالت حية وقوية في صعيد مصر نتيجة ظهور طبقة من الكتاب الشبان الذين بدأوا يفتشون في تاريخ قراهم وامجاد اجدادهم. أبرزهم الجارد والعنقاوي وبحبح فكري والدعباسي والحويطي وغيرهم. فأحيوا في كتابتهم أسماء كثير من المفكرين والعلماء الذين حملوا مشروعا فكريا إسلاميا وعربيا مضادا للمشروع الاستعماري مثل الجيلاني وبن الاحرش الذين استطاعوا ان يحملوا لواء المقاومة المنظمة القائمة على الفكر والتنوير لا على ا
عشاوائية غير المنضبطة. كما احيوا ذكر مفكرين أصحاب مدارس اجتماعية وفكرية وسياسية كأحمد بن ادريس الذي أسس أكبر مدرسة إسلامية فكرية سياسية في العصر الحديث تأثر بها كثير من المفكرين في العالم العربي والبانيا وماليزيا.
من أكبر هذه الشخصيات المغاربية الإصلاحية والتي عم صيتها الأقطار، والذي يصفه أحد تلامذته الشيخ التهامي الحميري بقوله” آية من آيات الله في الإتقان، والعلم والعرفان والإيقان، لا يكاد يوجد مثله في زماننا هذا، ولا يبعد أن يكون هو المجدد على رأس المئة لكثرة ما جمع من العلوم، مع اتساع الحفظ والباع في الأنظار والمفهوم، بحيث لا يجارى في الحفظ ولا يبارى، ولا يغالب في صحة الفهم ولا يماري”. انه الشيخ المجدد محمد الجيلاني السباعي الهاشمي المغرب صاحب الجهد الأكبر في تشكيل المقاومة الشرسة التي شهدتها الحملة الفرنسية في صعيد مصر. ويعد الشيخ الجيلاني شخصية القرن الثالث عشر الهجري التاسع عشر الميلادي بامتياز حيث لعب دورا كبيرا في حركة الإصلاح في الحجاز قبل أن يبرز دوره الأكبر في الإسراع بطرد الحملة الفرنسية من مصر حيث عمل “مطوعا” فترة كبيرة من الزمن داخل الحجاز وهذه وظيفة يقوما صاحبها بالإصلاح بين القبائل المتناحرة، والإصلاح الاجتماعي، والدعوة، وغيرها. كان لهذا الرجل دور كبير عند علمه بدخول الحملة الفرنسية لمصر اخذ يدعو للجهاد فنجح في جمع سبعة الاف مقاتل من أهل الحجاز وعبر بهم البحر الأحمر لمساندة المصريين ودعمهم في مواجهة الفرنسيين. لقد كان دورا كبيرا وعظيما لا يذكر منه التاريخ إلا نتفا هنا وهناك بين أوراق بعض المؤرخين الذين ذكروا اسم الرجل على استحياء شديد. إلا أن اسمه مازال محفورا في ذاكرة أبناء محافظة قنا في صعيد حيث كانت مسرح احداث المعارك التي قادها ضد الحملة الفرنسية الى أن استشهد ودفن في أرضها.
ثم يأتي مغاربي اخر يحاول استكمال مسيرة الشيخ الجيلاني، ويحمل راية المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي، ويلتف حوله الكثير من اتباع الشيخ الجيلاني ورجاله بعد استشهاد الشيخ الجيلاني إثر اصابته في موقعة أبنود. إنه محمد بن عبد الله بن الأحرش الدرعي النسب المالكي المذهب الدرقاوي الطريقة، زعم أنه من شرفاء فاس. كان بليغ الأسلوب في الحديث، فصيح اللسان في خطابة الناس استطاع أن يجمع حوله الكثير من الرجال، وتزعم المقاومة التي أذلت الفرنسين في إقليم البحيرة في شمال مصر، حيث حقق هناك انتصارات مذهلة على الفرنسيين في أكثر من معركة، ولعب دورا كبيرا في ثورة القاهرة الأولي والثانية. استطاع الهروب بعد هزيمته وذهب للجزائر وقام بثورة كبيرة ضد الحكم فيها حتى تم قتله هناك.
وفي عام 1820 يأتي عالما مغربيا ومصلحا كان له تأثير كبير على مجريات أحداث مصر، بل وتعدي أثره مصر ليصل إلى مختلف بلدان العالم الإسلامي. يقود هذا الشيخ ثورة كبري زلزلت أركان دولة محمد علي الحديثة. لقد كانت ثورة فكرية دينية كبري كان لها أثر كبير على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في صعيد مصر حتى بعد أن استطاع محمد علي السيطرة عليها.
استطاع احمد بن ادريس أن يكون مدرسة فكرية صوفية خاصة تخرج منها العديد من التلاميذ الذين كان لهم أثر كبير في دولهم، مثل تلاميذه محمد السنوسي في ليبيا وإبراهيم الرشيد في الصومال، وشيخ الازهر المرحوم صالح الجعفري في مصر.
وخلاصة القول إن المغاربة استطاعوا أن يتصدروا المشهد السياسي مع قدوم الحملة الفرنسية في مصر وامتد هذا الدور حتى عصر محمد علي واستطاعوا بناء مدارس فكرية وسياسية واجتماعية كان لها أكبر الأثر في رسم خريطة المشهد في مصر وفي بعض بلدان الوطن العربي والعالم الإسلامي. استطاع الجيلاني أن يكون أحد عوامل الضغط الكبيرة التي جعلت الحملة تسرع خطي الخروج من مصر، أما احمد ابن ادريس فكان أبا روحيا للعديد من المدارس التي استطاعت أن تسيطر على المشهد السياسي في بعض البلدان أبرزهم المدرسة السنوسية التي تولت قيادة المشهد السياسي في ليبيا فترة من الزمن. ورغم سقوطهم من ذاكرة التاريخ الرسمي في مناهج دولنا الإسلامية والعربية إلا أنهم مازالوا أحياء في ذاكرة التاريخ الشعبي.
شاهد أيضاً
د. محمد ولد أحظانا يؤرخ للموسيقى من خلال مصطلحها؛/المرابط ولد محمد لخديم
تُعدّ محاضرة الدكتور محمد ولد أحظانا رئيس نادي الفائزين بجائزة شنقيط حول الموسيقى الحسانية، التي …